لم أكن مطلعا على مقالة ادونيس المنشورة في الحياة (31 مارس) عندما كتبت مقالي عنه (هذه هي خلاصة سكوت ادونيس... ). إذ وصلني رابطه أمس عن طريق صديق. في الحقيقة أنني غالبا ما اتجنب ما يكتبه ادونيس، إذ ما قرأت مرة واحدة مقالا أو قصيدة له، ولم تُثَر أعصابي بسبب انتحال، أو خبث، أوجهل مطبق في استخدامه للمصطلحات: quot;المرأة العربية ليس لديها أي مشاكل، وإنما مشكلتها ميتافيزيقيةquot;...

يكشف ادونيس، في مقاله هذا،وكأنه طابور خامس للنظام السوري. ومصطلح quot;الطابور الخامسquot; اطلقه جنرال اسباني، إبان الحرب الأهلية،عندما أذاع نبأ مفاده ان طوابير قواته الأربعة، سيسندها طابور خامس يعمل داخل صفوف الجمهوريين. والمهمة هي زرع الشكوك بجدوى الثورة، وعبر حجج تبدو معقولة كـquot;نحن غير مؤهلين لهاquot; أو quot;الخوف من اندلاع حرب بين الأقاليم والجنسيات المختلفةquot; الخ.. ومقالة ادونيستدخل في هذا المنحى. وبما أن الأمر يتعلق بسورية، فإنها امتلأت بالشكوك في كل إمكانية تغيير، ولم تنطو حتى على تحية صغيرة للسوريين المحتجين، بينما اليوم كتب مقالا في quot;الصباحquot; التونسية يمدح فيها الثورة التونسية ويداهن التوانسة من كل جهة. وطبعا بعموميات عودتنا عليها قريحته. مع العلم أن هناك خوفا حقيقيا في تونس من أن يصعد حزب النهضة الى الحكم، ويقضي على كل ما تميز به المجتمع التونسي من حريات مدنية ومكتسبات دستورية، ليسلهاوجود في أي بلد عربي، وبالأخص في سورية.

في الحقيقة، إن غاية ادونيس، من كتابة هذا المقال التشكيكي، هي حجب ولائه الطائفي لنظام الأسد... والحجب جاء خصوصا بفزاعة ما حصل في العراق، وبإطلاق أحكام عمومية ممجوجة ومكرورة آلاف المرات في الانترنت، حول المجتمع المدني والتغيير والتخلف.

لنسأل ادونيسعبر مقتبسات من مقالته التي يمكن تلخيصها كحق يراد به باطل:
من quot;أقام سلطة ولم يبن مجتمعاًquot;، غير نظام الأسد بضلعيه.
من quot;حوّل بلده الى فضاءٍ من الشعارات والرايات، دون أي مضمونٍ ثقافيّ أو إنسانيquot; غير نظام الأسد بضلعيه؟
من quot;دمر مواطنيه - تخويناً، وسجناً، تشريداً وقتلاًquot;؟ غير نظام الأسد بضلعيه؟
وأي بلد quot;حقوق الإنسان وحرياته فيه تزداد غياباً وضياعاًquot;، غير سورية،

والآن: من ظلّ أصم أبكم إزاء هذه الجرائم الأسدية، لم نر له كلمة واحدة دفاعا عن حقوق المواطن السوري؟ غير أدونيس الكثير اللعلعة والإنشاء.

ومع هذا كان يمكن أن يٍؤخذ الكلام المكتوب في مقالته مأخذ جد لو جاء من كاتب غير ادونيس. إذ لا ندري مالذي فعله ادونيس خلال خمسين عاما للمجتمع المدني: هلبشعاره quot;العنفوحده طريق العرب إلى النصروباقتراحه كأفضل حل لليهودي هو وضع رصاصة في قلبه، كما كتب في لسان الحال (15 أيلول 1968)؛ أو بدفاعه عن مواقف شيخ الوهابية محمد بن عبدالوهاب في المرأة، كما كتبَفي مقدمته لمختارات من كتابات الشيخ؛أم بمطلع مقالته عن الشعر quot;جئتكم من بيت شيعيquot;، وبالفعل، بعد شهر من صدور هذا الكلام،جاء لبنان غزو سوري كاسح... وكأن ادونيس كان يبشر بهذا الغزو بحجة أن العلويين هم شيعة فلا تخافوا يا شيعة لبنان...؛ أو بقصيدته العصماء التي نشرها في السفير غداة تسلم الخميني السلطة وقضى عل كل ما كان مدنيا في إيران... ويا لها من قصيدة تنز حقدا وكراهية للعالم الغربي الذي يعيش بين جنباته ادونيس ويتوسل كتّابه أن يحصلوا له على جائزة نوبل:

quot;شعب إيران يكتب للشرق فاتحة الممكنات
شعب إيران يكتب للغرب
وجهك يا غرب ينهار
وجهك يا غرب مات
شعب إيران شرق تأصّل في أرضنا، ونبي
إنه رفضنا المؤسّس، ميثاقنا العربيquot;

هل يمكن تصديق شاعر يكتب هذه الحقد الطائفي الدفين الجدير بالغوغاء، بأنه يريد فعلا مجتمعا متحررا وإنسانيا ومدنيا؟
وماذا عن مدحه، قبل أسابيع، لحزب الله.....، الخ.

الغريب كل تصرفات ادونيس المشينة هذه، مرتبطة بالطائفة، أو منطلقة من جحر طائفي. في مقالته يتهم الجميع بعدم القيام بما هو مطلوب،وهو عين ما يشخصه من مثالب.

صرح ادونيس وعلى طريقته التعميمية، بأن العرب لم يستطيعوا منذ 15 قرنا، ان يبنوا مجتمعا ودولة مدنية. لا أعرف مدى فهم ادونيس لكلمة quot;مجتمع مدنيquot; لكن الذي أعرفه هو ان المجتمع العربي، في خمسينات وستينات القرن الماضي عرف مجتمعا مدنيا ودولة مدنية بشكل ما، وكانا يتناميان وكنا بالملايين نحلم بيوم سعيد ووطن حر.. لكن ما إن جاء نظام البعث بشكليه الإرهابيين العراقي والسوري، حتى أخذ المجتمع العربي يفقد كل مدنيته وامكانياته لخلق مجتمع ديمقراطي. فرعاع (وهم عادة من كل الطوائف)نظام صدام السني (*)دمروا المجتمع العراقي، ورعاع (وهمأيضا من كل الطوائف)نظام الأسد العلويتكفلوا بالمهمة الأكبر: تجميد المجتمع السوري وتدمير المجتمع اللبناني، وشدّ رِجلكلّ التيارات السياسية والأحزاب بعجلة النظاممفرغين إيّاها من أيّ محتوى وفعالية كانت لها في العهود الماضية...بل جعلوا من سوريامخبأ للإرهابيين والقتلة يهدد بهكم نظام الأسد أنظمة أخرى. فمثلا، عندما سقط نظام صدام، لاحت فعلا تباشير مجتمع حر في العراق، قبل أن ينحدر في الصراعات الطائفية وإلى برغي في جهاز ولاية الفقيه، شعر النظام السوري بالتهديد، فلعب دورا جوهريا في تدمير كل ما يساعد في بناء الديمقراطية ومجتمع مدني في العراق، عبر التفجيرات، وارسال مئات الإرهابيين لخلق صورة مشوهة ومريعة يستفز عبرها كل مجتمع يحلم بخلاص من ديكتاتور. والفقرة الرابعة من مقال ادونيس برهان قاطع على انحيازه لنظام الأسد!

أما لبنان الجميل والحر والرائع، فمن حطمه؟ جواب هذا السؤال يعرفه كل لبناني حتى الذي لا يزال في بطن أمه....

المطلوب ليس وضع أحجار في الطريق بحجة أن المجتمع quot;لا يتمّ تغييره بمجرّد تغيير حُكّامهquot;. هذا تلاعب لفظي ويخفي تواطؤا واضحا مع quot;الحاكمquot; المهددة مصالحه. على المرء، وأقصد المفكر، السياسي، الشاعر، المثقف، المواطنالمساهم في عملية التغيير، أن يشارك أولا في المدّ التاريخي وأن يلعب الدور المطلوب حتى لا تتحول quot;المشروعات السياسية في البلدان العربية، من مشروعات لبناء المجتمع والدولة، الى مشروعات تُستعاد فيها القبائل وانتماءاتها، والمذاهبُ الدينية وتناقضاتُهاquot;.

المشكلة مع ادونيس أن كتاباته مجرد إنشاء، متألق حينا، وفارغ مرارا. أي:سفسطة في كل موضوع إلا في الجوهر. والجوهر، هنا، هوالنظام السوري لا غير..الذي يجب أن يسقط مهما كانت النتائج... لأنه بسقوطه تتفتح كل الآفاق الجميلة وربما المريرة من باب المفارقة التاريخية... بل سيكون سقوطه ضربة في صميم النظام الإسرائيلي، وببنية الإرهاب نفسها (هذه البضاعة الإيرانية - السورية)، وسحق كل ما جاء نظام حافظ الأسد الدموي من قوانين حالت بين المجتمع العربي والتقدم المدني.

(*) لا أعني أن نظام صدام لم يقتل سنّة، على العكس كان أول عمل قام به هو تصفية عقلاء السنة واستخدم الرعاع من كل الطوائف لهذه المهمة. والنظام السوري ايضا تصرف الشيء نفسه مع العلويين.