لايحتاج المرء الى عناء تفكير لكي يتنبأ بمايدور في خاطر رجب طيب أردوغان، رئيس الوزراء التركي، وهو يسرح ويمرح في بلاد الثورات العربية، يلقى المواعظ ويشحن النفوس بالحرب الكلامية على اسرائيل والغرب. الأكيد أن أردوغان مرتاح كثيرا للاستقبال الحاشد وكل هذه القبلات الحارة التي تغدقها عليه القيادات والشعوب العربية على السواء، وهو الأمر الذي لايجده في بلاده وبين أكثر جمهوره حماسة واعجابا بسياساته. كما انه مندهش حقا لكل هذه الساذجة والبساطة وافتراض النيّة الحسنة، لدى مضيفيه.

ويعترف المتتبع لمسيرة أردوغان وquot;طلعته الصاروخيةquot; في ميدان السياسة بفنونه الرائدة في الالقاء والخطابة واسلوبه فيquot;شحذ الهممquot; وكذلك quot;شحن النفوسquot; الأمر الذي يأخذ بألباب مستمعيه فيقولون مايقوله القلب لهم وليس العقل، لكن تقاليد الضيافة العربية وسياسة quot;بالاحضانquot; والخدر، لكي لانقول الشلل، أمام كل شاعر شعّار يرفع راية القضية الفلسطينية، ويمتطي صهوتها، كان السبب الأكبر في انجاح quot;تمريرةquot; رئيس حزب العدالة والتنمية في مرمى العرب، ثوارهم وحكامهم على السواء.

***

جماعة (المجلس الانتقالي الليبي) في طرابلس يفرشون له السجاد الأحمر، والدماء لما تزل تجري في بلادهم، وهو الذي كان يقف أمام تدخل المجتمع الدولي لانقاذهم من كتائب القذافي ويقدم مصالح الشركات التجارية التركية، ومصير 30 ألف عامل تركي، على مصير الشعب الليبي بكامله. وكان وقتذاك، أي قبل بضعة أشهر، محمود شمام وزير اعلام المجلس يناشد أردوغان بعيون دامعة على شاشات التلفزة لكي يتراجع عن مواقفه quot;المؤيدة للقذافي وينقذ الشعب الليبي الأسير من بطش الجلاد المسعورquot;.

عبثاً كان ذلك. ولو لم يتقدم الثوار الى خلف بنغازي، ولو لم يٌسارع شركاء أردوغان في حلف شمال الاطلسي للتدخل وحجز الحصة من كعكة النفط اياها، لكان أردوغان مضى ممسكا باصراره على مساندة نظام القذافي والاشاحة عن quot;التمرد الحاصل في الشرقquot;.

وكأن شيئا لم يحدث. طرابلس حلت محلها بنغازي، والقذافي انتهى وجاء رجال (المجلس الانتقالي)، وثمّة ضمانات تؤكد بأن العمال الاتراك سيعودون والشركات التركية ستشتغل أكثر من ذي قبل. اقتنع أردوغان بان البازار الليبي quot;مدسمquot; جدا، لذلك لم يندم عندما اصطحب معه 250 من كبار تجار وسماسرة بلاده قاصدا quot;ليبيا الجديدةquot;.

***

ورغم ان أردوغان كان يصف المخلوع حسني مبارك بquot;الأخ الأكبرquot; وquot;الحكيم الذي يجب الاستفادة من خبرته الطويلةquot; وسكت دهرا عن جرائمه بحق شعبه، الا ان المصريين استقبلوه استقبال الابطال، وكأنه كان أول من وقف مع ثورتهم. وهنا ايضا لم يضيع quot;الاسلامي الانموذجquot; الفرصة، فصرخ مطالبا بحق الفلسطينيين ومؤيدا لدولتهم المنشودة ( أيَ من الحضور نسى تذكيره بان بلاده كانت المشتري الاكبر للسلاح الاسرائيلي، وان ثمن ذلك السلاح كان يتحول حمما على رؤوس الفلسطينيين في غزة وغيرها)، ولكنه quot;تورطquot; واشار الى ضرورة ان تكون الدولة المصرية القادمة quot;علمانيةquot; فغضب الاخوان المسلمون عليه وطلبوا منه عدم التدخل في شؤون المحروسة والكف عن محالاوت تصدير نموذجه في quot;الاسلام العلماني الاطلسيquot;. وكانت فرصة طيبة لكي يرٌضيّ الاخوان اهل الثورة الاسلامية في ايران الذين لم يفقوا بعد من صدمة تمكين أردوغان لحلف شمال الاطلسي في زرع الدرع الصاروخي في تركيا لمواجهة أي هجوم ايراني يستهدف شرق أوروبا و...اسرائيل!.

***

أما أهل الثورة السورية، فمازال الكثير منهم يستجدي quot;السلطان الاعظمquot; وقد اقسموا على التبرك باسطنبول وانطاليا كمحجين مباركين لهم، والاستماتة فيquot;استيلادquot; اول (مجلس انتقالي سوري) معارض لنظام الاسد من هناك. المازوشية في حب أردوغان وحزبه quot;الاسلامي الاطلسيquot; بلغت درجة كبيرة الى الحد الذي لم يتفوه هؤلاء بكلمة واحدة ضد الجريمة الخسيسة في تسليم الاستخبارات التركية الضابط الحر حسين هرموش الى مقصلة النظام السوري.

الفعلة الجبانة التي تنافي اخلاق الرجال بتسليم حزب العدالة والتنمية لهرموش الى المخابرات السورية سوف تلقي بظلالها على كامل الثورة السورية، وسوف quot;تفرملquot; عملية الانشقاقات وتحبط همم الآلاف. لكن يبقى توزيع المناصب المفترضة، للمعارضين المشهورين منهم والمغمورين، أهم بكثير من مصير هرموش وغيره من الفارين من بطش الشبيحة الى دولة استخبارت العدالة والتنمية.

وماذا عن مخيم quot;يايلاداغquot; وأهله المحاصرين؟.

لم تكتف حكومة اردوغان بquot;استضافةquot; هؤلاء الفارين في الخيم المنصوبة في العراء والمحاطة بالاسلاك الشائكة، بل عملت على منع كل القادمين من اللقاء بهم. وبدأت جهات صحفية تركية تتحدث عن quot;حالات اغتصاب جماعيةquot; بحق النساء هناك. والانكى بان الاستخبارات والشبيحة التابعة للنظام السوري بدأت تخترق المخيم، وتقنص أهله من على بعد امتار من الحدود تحت مرآى ومسمع حراس الحدود والجندرمة التركية.

كل ذلك والسلطات التركية صامتة.

ولم لا؟.

الأسد قدم كل ما يمكن تقديمه لتركيا وحزب العدالة والتنمية: نسى حجب مياه الفرات ودجلة، الأمر الذي حوّل المناطق الشرقية في سوريا الى صحراء حقيقية. تنازل عن لواء الاسكندرون. نفذ كل بنود اتفاقية quot;اضنةquot;، وسكت على الاختراق الاستخباراتي والاقتصادي التركي للوطن السوري، ومضى في حربه ضد تطلعات الشعب الكردي في سوريا وتركيا على السواء.

وجد أردوغان ان كفة الاسد هي الراجحة في البازار السوري، فابرم معه اتفاقا استثنى منه التصريحات الهادرة المتضامنة مع quot;حق الشعب السوري في الديمقراطية والحريةquot; والمنتقدة لquot;سياسة التعامل الامنيquot; تلك. كما طلب اعفاءه من الزيارات الى دمشق، لأن الشعب السوري كان اكثر ذكاء مما كان يظنه أردوغان، وعرف بأن زيارات وزير خارجيته أحمد داوود أوغلو كانت للاستهلاك المحلي وحزما من الفرص وأطواق النجاة الملقاة امام النظام السوري الغارق في دم شعبه، والمنهمك في القتل والسحق، والمؤمن بهما طريقا اوحدا للحل وquot;احلال السكينة والهدوء النهائيينquot;!.
***

جولات أردوغان كانت ناجحة على أكثر من صعيد. هو قدم كلاما في الهواء وجنى عقودا وتصفيقا من القلب، لكنه بعيد عن حسابات العقل والمنطق وساذج تماما. وريثما تنتصر الثورة السورية فان المصلحة تقتضي في اسناد النظام السوري، الحليف والشريك فعلا وقولا، مع الاحتفاظ بحق توجيه النقد والنصائح والبقاء على حالة quot;الزعلquot; تلك...

[email protected]