القسم الرابع

أما السؤال الرابع الذي وجهه الي الصحفي العراقي الذي طلب عدم ذكر اسمه، فهو:

4) هل أحسست بالاضطهاد أو التفرقة خلال تواجدك في بغداد؟
عند تصاعد الآراء النازية والفاشية في العراق في أواخر الثلاثينيات وبداية الأربعينيات بدأ الاضطهاد من قبل السلطات والحركات والاحزاب القومية التي تأثرت بها وخاصة حركة الفتوة وكتائب الشباب ونادي المثنى حزب الاستقلال. كان المنتمين إليها من الشباب الذي تحمس للآراء النازية والفاشية ظنا منهم انها ستحرره من الاستعمار البريطاني. وقد رأوا أن من واجبهم إهانة اليهود وضربهم في الشوارع وبتشجيع من المندوب النازي في العراق فريتز غروبه، حسبما اعترف بعض المعلقين على سلسلة ذكرياتي في حديثي عن quot;الفرهودquot; من الذين اتسموا بالنزاهة والصدق والإخلاص للعراق والوطنية العراقية لشعورهم بتأنيب الضمير، أما الجيران المسلمون فقد كانوا مسالمين معنا بل كان البعض من المدافعين عن جيرانهم اليهود قد عرضوا أنفسهم للخطر وإن لم تذكر المصادر التي بين ايدينا مقتل أحد من المدافعين المسلمين كما ذكر الاستاذ حامد الشريفي في مقاله الموثّق عن الفرهود في ايلاف حول اادعاء احد الكتاب تملقا بان 200 من المسلمين قتلوا دفاعا عن جيرانهم ولم يأت باية وثيقة تؤكد شطحاته التاريخية التي اشتهر بها تملقا وظنا منه ان quot;محاضرتهquot; لم تسجل بالفيديو. وقد أخبرني السيد يوسف شيمطوب وهو سائق سيارة تاكسي في مدينة بنى براق الذي ولد في بغداد يوم الفرهود، بأن جارهم المسلم، (ومع الأسف الشديد لم يستطع تذكر اسمه لتخليده في متحف الكارثة والبطولة في إسرائيل)، نقل والدته التي كانت في مرحلة الطلق والولادة، إلى داره مع حوالي الثلاثين من أفراد عائلته، فآواهم وواساهم وقام بحمايتهم وإطعامهم، وأرسل في طلب قابلة مسلمة لتقوم بالإشراف على ولادتها، واستضاف الجميع بدون مقابل، بل لوجه الله وذمة الإسلام السمح ما يقارب الثلاثة أسابيع. وكان يوسف شيمطوب خلال سفري إلى القدس يذكر هذا الجار المسلم الشهم وعائلته بالخير والدعاء له بالرحمة وجنات النعيم في عالم الخلود، بينما روى لي أصدقاء آخرون عن وقائع الفرهود حالات غدر تقشعر لها الأبدان، quot;وكل إناء بما فيه ينضحquot;. وقد قدم أحد الاعلاميين العراقيين الافاضل والذي زار متحف ومركز تراث يهود العراق في أور يهودا، من الذين اغتربوا في كندا، وهو الاعلامي الكبير حسين الحلي، صينية من الفضة طبع عليها أسم الصائغ اليهودي العراقي quot;عمل حسقيل الياهوquot;، اشتراها من أحد محلات التحف في الأردن. وقال للسيد مردخاي بن بورات رئيس إدارة المركز بأنه يعتقد بأن هذه الصينية نهبت في الفرهود من عائلة يهودية، ولذلك يشعر بان من واجبه كعراقي مخلص لوطنيته إن عليه إهداءها إلى مركز تراث يهود العراق في إسرائيل لإيداعها في متحف يهود العراق وليعيد الأمانة إلى أصحابها. فأكبرنا انسانيته ووطنيته وإخلاصه ليهود العراق ولذكراهم، كثر الله من أمثاله.

وفي عراق الخير والبركة، كانت تربطني روابط صداقة متينة بصديقي إياد ابن الدكتور علي غالب من ام سويسرية وكان بيننا من الود ما بين اخوين حميمين، وتربط اليهود بكثير من العائلات العراقية المسلمة والمسيحية والكردية روابط صداقة حميمة أما برضاعة مسلمة لطفل يتيم يهودي أو يهودية لطفل مسلم يتيم او جف حليب والدته، فنتزاور ويشاركوننا ونشاركهم في حفلات الزواج والولادة والختان، أما في نهاية عيد الفصح حين لا يجوز لليهودي تناول الخبز الخمير بل الفطير فقط، فقد كان الجيران المسلمون يرسلون الخبز واللبن الى إخوانهم اليهود بانتهاء النهار الأخير لعيد الفطر لكي يشاركوننا لذة عودة الحياة إلى طبيعتها بانتهاء العيد والتذوق بشهية ما كان محظورا خلال أكثر من أسبوع من تناول الخبز الخمير واللبن الرائب. وفي المحلات المختلطة كان الجيران المسلمون إذا سمعوا بفتاة يهودية فقيرة في حاجة إلى إكمال جهازها ومهرها الذي عليها تقديمه لعريسها حسب العادات والتقاليد اليهودية القديمة البالية، كان الجيران المسلمون يقومون بمد يد المساعدة لعائلتها لتكمل فرحة العرس. وقد روي المرحوم ساسون عزت معلم من الديوانية في كتابه quot;على ضفاف الفراتquot; كيف كان اليهود الأغنياء في الديوانية يقومون بواجبات الضيافة وتكاليف الولائم للعائلات المسلمة في احتفالات الزفاف والختان. أما الأديب اسحق بار- موشيه، فقد روى أن والده قام بدفع نفقات ابن جاره التعليمية إلى أن أنهى دراسته الثانوية لكي يساعد جاره المسلم الذي لم يستطع القيام بذلك. أما الشاعر والأديب العراقي الشهير المحامي انور شاؤل محرر مجلة quot;الحاصدquot; فقد ارضعته جارته المسلمة السمحة حين تيتم بعد ولادته، فأية سيدة نبيلة هذه؟ الا تستحق اقامة تمثال لها في العواصم العربية، لتكون مثالا بحتذى للاخاء والانسانية الخيرة النبيلة، اسكنها الله تعالى واسع جناته وغفر لها ولاهلها الميامين، والأمثلة كثيرة رواها الأدباء أنور شاؤل وعزت ساسون معلم ومير بصري ومنشي زعرور وغيرهم في كتبهم باللغة العربية التي نشرت أغلبها رابطة الجامعيين اليهود النازحين من العراق.
وبعد عام 1938 بدأنا نشعر بالاضطهاد والتفرقة في الشارع حين أخذ الصبيان والشبان يرجمون اليهود بالحجارة وخاصة في شارع غازي ومحلة باب الشيخ وفي أثناء صلواتهم في الكنس. أما في المدرسة فقد بدأنا أخي وأنا في مدرسة السعدون النموذجية نعاني من تحرش واضطهاد الطلبة وخاصة من قبل فيصل بن رشيد عالي الكيلاني وغيره من الذين تشبعوا بالآراء النازية، أما الطلبة الذين كانوا من أبناء الأجنبيات فقد كانوا يتعاطفون معنا ومخلصين لنا. وقد رويت كثيرا من هذه المواقف في ذكرياتي عن مدرسة السعدون وquot;الفرهودquot; وشنق شفيق عدس التي نشرتها مجلة quot;إيلافquot; الحرة.
أما السؤال الخامس فقد جاء مطابقا للسؤال الاديبة الموصلية الاكاديمية، والفنانة الموهوبة نزيلة كندا مع زوجها البغدادي الاستاذ فرحان عمر، عاشق العراق، فهو:

5) هل تحن إلى أجواء بغداد وما هي الأكلة التي كنت تفضلها حينذاك؟
الحنين إلى العراق هو شعور ملازم لنا وخاصة بسبب ما يحدث الآن يوميا في العراق، إذ تذكرنا أسماء الأماكن والصور التي نشاهدها في التلفزيون بمسقط الرأس فنترحم ونشفق وندعو الله لخلاص العراق من محنته. والحنين الرئيسي الذي نتبادل الحديث عنه في إسرائيل هو لليالي الجزرة والنزهات بالبلام (القوارب) النهرية على دجلة في أيام الصيف المقمرة، وايقاع المجاذيف وquot;نقر الدرابك من بعيدquot; كما قال المرحوم السياب، مصاحبا العتابا والغناء العراقي الشجي، ورائحة ضفاف دجلة والفرات العطرة الفريدة، ودخان السمك المسكوف يعطر الأجواء، وغناء المستحمين quot;هذا الكيش حلاوي، ياكل تمر خستاويquot;، والسباحة في مياه دجلة العطرة ومعلم السباحة هامي اليهودي الذي كان يغني معنا: quot;يا اولاد بلبول!quot; فنردquot; بليquot; ثم يسأل: quot;ما شفتم عصفور؟quot; \ بلي! \ ينقر بالطاسة !quot; \ بلي \ لابس حياصة \ بلي \ وننهيها بهوسة: ههيي ههيي! وقد حل رئيس الوفد الرياضي العراقي الذي اشترك مع العرض الكبير للكشافة الالمانية والاجنبية مشكلة انشاد النشيد الوطني العراقي مثل باقي الفرق الكشفية، ولم يكن قد نظم بعد، حين مرورهم بالفيهرر هتلر، هذه الهوسة الطفولية quot;لاولاد بلبولquot;، التي تظاهر رئيس الوفد العراقي بانها النشيد الوطني، ففازت بالتصفيق الحاد وترديد الفرق المحتفلة والالمان بلازمة بحماس: quot;بليquot; من قبل الجمهور النازي الالماني المتحمس، مما يشير الى سرعة البديهية عن العراقيين في ارتجال الحلول، فلا يضاهي احد من شعراء البلاد العربية شعراء العراق في ارتجال الشعر وهي سليقة فريدة اشاد بها الباحثون، وquot;الطيور على اشكالها تقع!. وفي مثل هذه النكتة الفريدة من نوعها، فضحت quot;ذكاء النازيين العسكريينquot;، كما كنا نغني للطيور عند مشاهدتها وخاصة للقلق، فنغني له: quot;لكلك لكلك لكلك، بواك الصابونة \ من جوّا الرازونة،quot; ومع الفاختة في نواحها الذي أشجى ابي فراس الحمداني. وفي أغاني الأطفال هذه نجد أبياتا ليست ذات معنى ولكن الشئ الذي كان يطربنا فيها هو رنين القافية والإيقاع المرح، واليوم أدركت أن مثل هذا الغناء كان قد سبق المذهب العبثي (الأبسورد) في الأدب الأوروبي ورواية quot;في انتظار جودوquot;. أما إذا شاهدنا جملا في شارع غازي فقد كان الصغار يعدون وراءه ويغنون له: quot;أبو حلق الجايف، أبو حلق الجايفquot;، فإذا أسمع هديره الغاضب، يستدركون مخافة أن يعضهم بأسنانه التي يسيل لعابه منها وينشبها في لحمهم الغض بقولهم: quot;لا، مو جايف، مو جايف!quot;

أما الأكلة التي كنا نفضلها في العراق فهي الكبة والباجة والقوزي في الشتاء والسمك المسكوف في الصيف. وفي الصباح الصمون المقسب مع العسل والقيمر وعلب اللبن التي كانت نساء المعدان تأتين بها من وراء السدة وكل واحدة منهن تحمل العديد من العلب على رؤوسهن في غبش الفجر سيرا على الأقدام مسافات طويلة بقامتهن المنتصبة بكبرياء واعتداد الرماح العوالي، رحم الله تلك الأيام الخوالي.



(يتبع، 5)