لماذا أطلقوا عليه هذا اللقب؟!.. أكان ذلك لأنه يرتدي دائماً عباءة الكرادلة الحمراء؟!.. أم لأن يديه - كما يزعم أعداؤه - اصطبغت باللون الأحمر لكثرة ما خاضت في دماء الناس؟!..

ذلك هو (ريشيليو) وزير ملك فرنسا في النصف الأول من القرن السابع عشر.. القرن الغامض، الحافل بالمتناقضات..
ما أكثر ما قيل عنه.. ولكن التاريخ المنصف يقول عن الكاردينال الأحمر:
quot; لقد كان ريشيليو عنيفاً.. أجل.. قاسياً في أحوال كثيرة.. أجل.. دموياً أيضاً في أحوال قليلة.. أجل، غير أنه بهذا استطاع أن يوحّد فرنسا حول ملك واحد.. وأن يجمع شتات الأمراء المتنازعين، ويوحّد قواهم حول العرش ولخدمة التاج!!quot;
ويذكر لـه التاريخ - أيضاً - أنه أنقذ مليكه من مؤامرة محبوكة الأطراف كانت كفيلة لو تمت أن تودي بالأسرة المالكة على حكم فرنسا.
لنتصور أحداث الحكاية عندما نعود إلى القرن السابع عشر وإلى عام 1638 على وجه التحديد، لنرى الكاردينال ريشيلو في غرفته بالقصر وبالقرب منه أمين سره وهو يملي عليه بعض المذكرات، الليل في منتصفه، ولم يبق ساهراً غير الكاردينال المثابر وحرس القصر، وفجأةً يدخل عليه الملك، فيهبّ مرحباً:
ـ مولاي.. أهلاً بك، لم أتوقع تشريفك في هذا الوقت من هزيع الليل!!.
ـ اصرف من حولك من موظفين وحرّاس، فإني أريد أن أخلو بك لأمرٍ خاص..
ـ أجل يا صاحب الجلالة..
(ويأمر الجميع بالانصراف..)
ـ معذرة يا صاحب الجلالة إذا كنت لا أستطيع الوقوف بين يدي جلالتكم لأني مريض كما تعلم ولا أستطيع مفارقة المقعد..
ـ ومع ذلك فالناس يقولون أنك في كل مكان يا كاردينال ريشيليو..!!
ـ من أجل خدمة مولاي..!!
ـ وأحياناً من أجل خدمة نفسك!!
ـ كأن صاحب الجلالة الملك، يضمر شيئاً في نفسه.. ليت أن جلالتك توضح لي أكثر بالذي تعنيه..
ـ أنت تعرف ما أعني..!!
ـ ليس في ذهني شيئاً محدداً مما تقصده جلالتكم..
ـ الحق أنني لا أدري كيف أصوغ أفكاري بمثل الوضوح الذي تميزت أنت به يا كاردينال.. حسناً سأحاول أن أوضح لك بقدر استطاعتي ما يدور برأسي..
ـ إني أنتظر ما تأمر به يا صاحب الجلالة..
ـ أنت رجل عظيم يا صديقي.. لا أحد يشك في هذا، ولست أذكر في تاريخ فرنسا وزيراً استطاع أن يسدي إليها من الخدمات بعض ما أسديت.. ولكن.. ولكن كان ذلك كله يا عزيزي الكاردينال على حسابي أنا شخصياً..!!
ـ (في دهشة).. يا صاحب الجلالة، أقسم لك حقاً إنني لا أكاد أفهم ما ترمي إليه..؟!.. كيف يكون مجد فرنسا على حسابك؟!.. إنه لحسابك يا مولاي.. لحساب التاج..!!
ـ لكن أصدقائي هم الذين دفعوا الثمن!!.. إنك يا كاردينال لم تبق لي على صديق واحد!!.. ما أن تدرك أنني اصطفيت أحداً من الأمراء أو النبلاء، حتى أخذت تتابعه بالاتهامات إلى أن تقضي عليه!!
ـ لم يكن ذلك يحدث بدون محاكمة قانونية تُثبت فيها الخيانة..
ـ الخيانة؟!.... لمن؟!.. لي..أو لك..؟!
ـ للتاج يا صاحب الجلالة، لفرنسا.. لشعبها..
ـ أتحب أن أعدد لك ضحاياك من أصدقائي وأقرب الناس إلي؟!
ـ ملفاتهم في هذه الغرفة يا مولاي، ما أن تذكر اسم واحد منهم حتى أعيد إلى ذاكرتك كل ما ارتكب من آثام وشرور في حق التاج!!
ـ (بعد تفكير).. لعلك على حق!!.. ولكن التهم في بعض الحالات لم تكن تتناسب مع الأحكام.. لقد سال دم كثير يا كاردينال!!
ـ وأصبح التاج فوق رأسك أكثر ثباتاً يا مولاي!!
ـ (بغضب).. ألا ترى أنك تغالي فيما تقول:.. حسناً.. منذ الساعة سأعفيك، وسأحكم البلاد بنفسي!!
ـ طالما رجوتك أن تفعل يا مولاي.. وليتك تفعل هذه المرة.. فإني مريض وفي حاجة إلى الراحة..
ـ حتى وإن كنت مريضاً، فإني أعرف قدر حبك للسلطة وللسيطرة والهيمنة، فإذا أردت الاحتفاظ بمنصبك، فدع الماركيز سان مار، ولا تمسّه بشرّ..
ـ سان مار يا صاحب الجلالة يتآمر عليك!!
ـ أنت تكذب، أو اثبت ما تقول!!
ـ لقد أقلتني ياصاحب الجلالة ولم يعد من حقي إثبات أي اتهام لأعدائك.. ثم ألم تقل منذ لحظة أنك سوف تحكم فرنسا بنفسك؟!
ـ أتهددني أيها الكاردينال؟!
ـ كلا يا صاحب الجلالة.. ولكنني مريض ومن حقي أن أستريح.. ورغم كل شيء فستجدني رهن إشارتك إذا احتاج الأمر إلى رأيي.. وإذا سمحت لي أن أستدعي الكونت جالمار سكرتيري ليعرض على جلالتكم منذ اللحظة كل أمور الدولة العاجلة..
bull; وينزوي الكاردينال الأحمر في غرفة نومه ويترك سكرتيره يعرض على الملك الأمور العاجلة..
وبعد أن أطال السكرتير بشرح عدد القضايا المطروحة.. صرخ الملك منزعجاً:
ـ مالي أنا وللأمور العاجلة، اعرضوها على الوزراء.. كلٌ فيما يخصه..
ـ أجل يا صاحب الجلالة.. ولكن.. ولكن...
ـ ولكن ماذا يا كونت جاليمار؟!
ـ يا صاحب الجلالة، ما أعرضه على جلالتكم هي أمور على أقصى درجة من السرية، وليس من مصلحة الدولة أن تتناولها أيد كثيرة..
ـ حسناً.. حسناً.. اعرضها على الكاردينال..
ـ الكاردينال؟!.. ولكنك يا صاحب لجلالة...
(ويسكُت)..
ـ (في حدّة).. إنني لم أقله من الوزارة.. ما دام يتقاضى مرتبه، فعليه أن يعمل به!!
ـ سأخبر نيافته بهذا يا صاحب الجلالة!!
ـ كلا.. أنا الذي سأخبره بذلك.. الآن في الحال.. اذهب إلى غرفته، وأخطره بزيارتي..
bull; ويذهب الملك إلى غرفة الكاردينال الذي يبادره بالقول:
ـ يا صاحب الجلالة، سأنظر في الأمور العاجلة حتى تجد من يحلّ مكاني..
ـ (محاولاً إرضاءه).. لا أحد يستطيع أن يملأ مكانك يا صديقي الكاردينال، احتفظ بكل صلاحياتك، بل أطلب ما تشاء من صلاحيات أخرى بشرط!!
ـ ما هو؟!
ـ ألا تأمر بإلقاء القبض على الماركيز سان مار..
ـ بل أنت يا مولاي من سيوقع على أمر إلقاء القبض على سان مار..
ـ بحق السماء.. لم تكرهه إلى هذا الحد؟!
ـ لأنه يتآمر على عرشك يا مولاي..
ـ لقد اتهمت أخي جاستون بهذا، وأمرت بنفيه من البلاد، وابن عمي الدوق مونمورانس، وأعدمته.. والآن تريد أن تقبض على الصديق الوحيد الذي اخترته لنفسي!!
ـ أتمنى يا صاحب الجلالة أن تعطيني الفرصة لأبصرك بخيانة صديقك المزعوم والذي رفعته إلى مرتبة النبلاء، فيتطلع أول ما يتطلع إلى أميرة من الأسرة الملكية..
ـ أهذا كل ما تأخذه عليه؟!
ـ أو تدري يا مولاي لماذا وقع اختياره على الأميرة ماري دى جونزاج؟!
ـ لأنه يحبها!!
ـ كلا.. بل هو يريد أن يكتسب عن طريق الزواج بابنة أختك الحق في أن يكون ترتيبه الثالث في وراثة العرش.. ألا يشير هذا إلى نية أخرى مبيتة؟!
ـ نية مبيتة؟!.. ماذا تعني؟!
ـ القيام بانقلاب تسانده دولة أجنبية للوثوب إلى عرشك..
ـ (ضاحكاً).. سان مار يفعل هذا؟!.. إنك يا كاردينال رغم علمك ببواطن الأمور، لا تدري شيئاً من أمور النبلاء!!..
اعلم يا عزيزي الكاردينال أن سان مار يحب ماري دى جونزاج حقاً وصدقاً، ولولا أنها ردته لما عارضت في الزواج..
ـ حمداً لله أنها ردته، ولم يضطرني ذلك إلى معارضة رغبتكم..
ـ انتهى هذا الأمر على أي حال.. فما الذي تأخذه على سان مار بعد ذلك؟!
ـ مؤامرة عليك يعدها، ولدي بعض الأدلة على ذلك.. وأفضل أن أقبض عليه قبل أن يطمس معالمها..
ـ (في حدة وغضب).. وهذا ما لن أمكّنك منه.. لقد تجاوزت حدك يا كاردينال، ولذا فقد أمرت بفصلك ونفيك، وغداً يصدر قراري الملكي بذلك!!
bull; ويتردد لويس الثالث عشر في إصدار القرار.. ويحاول مرةً أخرى أن يجرّب مهارته في معالجة شؤون الدولة، ولا يرى ضيراً في أن يطلب العون من سكرتير الكاردينال الكونت جاليمار الذي يقف أمام الملك يومياً حاملاً العديد من الملفات والأوراق..
ـ التقرير الوارد إلينا من البرتغال يا صاحب الجلالة، يدل على أن أميرها يمد يده إلى كاتالونيا ويؤيدها في ثورتها..
ـ ماذا عن ملك إسبانيا؟!
ـ كالعادة.. ضد الثورة..
ـ إذاً لنساعد نحن الثورة.. أرسل إلى كاتالونيا، وقل لزعماء ثورتها أنني أضع يدي في يدهم.. قل لي يا جاليمار، ماذا كان الكاردينال ريشليو يفعل أمام موقف كهذا؟!
ـ من حق جلالتكم اتباع ما تراه في هذا الشأن، لكن موقف نيافة الكاردينال سيكون مختلفاً عما أشرت عليّ به..
ـ حسناً دعني أفكر في الأمر.. انتظر قراري بعد أسبوع..
ـ أسبوع يا مولاي؟!.. الموقف لا يحتمل التأخير حتى ليوم واحد..
ـ ولكنني أريد أن أفكر!!.. أريد أن تكون الرؤية أمامي واضحة..
ـ كما تشاء يا مولاي.. وماذا سنفعل بالمشكلة الإنجليزية..
ـ ماذا بشأن إنجلترا هي الأخرى، هل سأحل كل المشاكل بجلسة واحدة..
ـ إنها مشاكل عاجلة يا صاحب الجلالة.. كان الكاردينال يبت في العشرات منها في أقل من ساعة..
ـ اللعنة على الكاردينال.. ماذا بشأن إنجلترا؟!
ـ الملك شارل الأول في موقف عسكري دقيق أمام كرومويل، وقد أرسل يطلب من فرنسا أن تتدخل لنصرته..
ـ أطلب إلى القائد العام للجيوش الفرنسية بتلبية رغبة الملك شارل في الحال.. ودون تأخير..
ـ يا صاحب الجلالة.. لقد جاءتنا من الملك شارل نداءات كثيرة كهذه، وهاك واحد منها، كتب عليه الكاردينال بخط يده تعليقاً قد يلقي الضوء على المشكلة..
ـ أرني ما كتبه الكاردينال عليه اللعنة.. (يقرأ): quot; يحسن عدم الاندفاع في تأييد شارل الأول فهو في حربه ضد كرومويل يعتمد على الإسكوتلنديين، وما عندنا من أنباء سرية يدل على أنهم سيبيعونه لكرومويل بأرخص الأثمان.. وكرومويل سينتصر، ولا معنى أن تلقى جيوشنا هزيمة لا ضرورة لها على أرض إنجلترا..quot;
ـ إذن فهذا رأي الكاردينال..
ـ أجل يا صاحب الجلالة.. ولكن هذا لا يمنع أنه كان له رأي مناسب للموقف الحالي يختلف قليلاً عن رأيه الأول..
ـ وماذا؟!
ـ الحق إنني لا أعرف يا صاحب الجلالة..
ـ حسناً.. لنؤجل هذا الموضوع أسبوعاً..
ـ كما تشاء يا مولاي، هناك الآن مشكلة أملاك البروتستانت في..
ـ (مقاطعاً).. كفى.. كفى.. لقد أغرقتني في بحرٍ من المشاكل.. أمور معقدة وكثيرة.. تريدون مني أن أحلّها الآن.. أين ذهب هذا اللعين الكاردينال ريشيليو؟!..
إنني لم أصدر قراري بفصله بعد.. وعليه مواصلة عمله..
bull; ويأتي الكاردينال محمولاً على محفته من فرط المرض، ويبادر الملك بقوله: أنا مريض يا مولاي.. ولا طاقة لي بالعمل..
ـ لا تجادل يا كاردينال، وابدأ عملك..
ـ إنني في طاعة مولاي، ولكن لي شرط..
ـ أعرفه.. أعرفه.. أن أوافقك في إلقاء القبض على سان مار!!
ـ بل تقوم بالتوقيع على أمر إلقاء القبض عليه!
ـ هات الأمر، وإليك التوقيع.. والآن بحق السماء اعفني من النظر في هذه الأمور المعقدة!!
bull; والسؤال: هل كان الكاردينال متجنياً على الشاب المرح والجميل quot;سان مارquot;؟!.. أم كان ذلك الوجه الجذاب ساحر النساء يخفي وراء تقاطيعه الوسيمة أخبث نفسية تتآمر ضد بلاده ومليكه كما يزعم الكاردينال ريشيليو؟!
bull; قال التاريخ كلمته في الإجابة:
إن ريشيليو استطاع أن ينقذ عرش مليكه من أخطر مؤامرة تعرضت لها فرنسا في القرن السابع عشر.. والمؤامرة التي دبرها وحاك خيوطها وأوشك أن يصل بها إلى غايتها، الماركيز سان مار صديق الملك لم تتضح تفاصيلها، لكننا سنأتي عليها لنرى أن الماركيز سان مار لازال حراً طليقاً، بل أنه قد ازداد حظوة عند الملك والنبلاء جميعاً، والنبيلات على وجه الخصوص، إلا أن عين الكاردينال لم تغفل لحظة واحدة عن سان مار وأعوانه..
bull; أما لماذا لم يأمر بإلقاء القبض عليه؟!.. رغم أنه صدر عن الملك نفسه، فإن الكاردينال يرى أنه لا يبدأ بتنفيذ إلقاء القبض حتى يتحرك سان مار بتنفيذ الخطة التي أعدها كي تكون لديه أدلة دامغة على اتهامه. فالكاردينال يتابع عن كثب تلك الجلسات السرية في قصور المتآمرين من أعداء الملك، فرجاله ينقلون له حرفياً كل ما كان يدور في تلك الاجتماعات، والكاردينال يطيل لـ سان مار الحبل كي يشنق نفسه بنفسه.
ومن الأخبار التي تسربت إلى الكاردينال من قصر الدوق جاستون دورليان شقيق الملك في الريف، حيث كان الملك قد عفا عنه، وحدد إقامته في ذلك القصر ما قاله دورليان نفسه:
ـ اللعنة على أخي لويس الثالث عشر.. لن أرحمه حين يقع أسيراً في يدي.. وستحل أنت يا ماركيز سان مار محل ذلك الكاردينال اللعين!.. فيجيبه سان مار:
ـ هذا شرفٌ كبير يا دوق دورليان.. ولكنني صغير السن على منصب كبير كهذا..
ـ لن أبالي يا ماركيز.. أليس ريشيليو قد تولّى هذا المنصب وهو في الخامسة والعشرين، المهم أن تخبرني الآن إلى أين سارت الأمور، ومتى نبدأ بتنفيذ خطتنا؟!
ـ في أقرب مما تتصور يا صاحب الجلالة!!
ـ لا تتعجل بأن تخلع علي هذا اللقب، فلم أصل إلى التاج بعد..
ـ سيشرّف التاج برأسك بعد ثلاثة أشهر على أكثر تقدير.. لقد نجح رجالي في إغراء فيليب الرابع ملك إسبانيا بعقد معاهدة سرية معنا من شروطها أن يمدنا بالرجال والمال لقاء أن نتنازل له عن قلعة (سيدان) موضوع الخلاف بينه وبين الكاردينال ريشيليو.
ـ ما أهونه من ثمن.. هه..؟! وهل وقّع فيليب على المعاهدة؟
ـ ليس بعد يا مولاي.. فقد اعترض على بعض النقاط الأخرى، وهي قليلة الأهمية، فرأيت أن آخذ رأي جلالتك حتى لا يحدث أي خلاف بعد ذلك..
ـ لا تدخلني في التفاصيل.. اتفق مع الملك فيليب عل كل ما تراه مناسباً للموقف.. كل ما أريده هو أن يمدني بعشرة آلاف مقاتل ينضمون في اللحظة المناسبة إلى رجالنا، فأسير على رأسهم من الجنوب حتى باريس.
ـ حسناً.. سنكتب صيغة المعاهدة.. ويحسن أن يكون ذلك بخطك يا صاحب الجلالة حتى يقتنع فيليب الرابع بجدية الأمر..
ـ لا.. لا.. لا.. لا أحب أن أكتب شيئاً بخطي..
ـ ولماذا يا صاحب الجلالة؟!
ـ احترازاً.. من يدري؟!
ـ يا صاحب الجلالة، إن رأسي في هذه المؤامرة قبل رأسك.. فإذا أردت جلالتك أن نتم ما بدأناه، فليكن نصف الصيغة بخطي، ونصفها الثاني بخطك!!
ـ لا بأس بهذا.. لا بأس بهذا.. ابدأ بكتابة الجزء الأول يا ماركيز.. ولكن قل لي كيف ستصل هذه المعاهدة إلى الملك فيليب الرابع دون رقابة الكاردينال ريشيليو؟!
ـ سيتكفل بهذا الماركيز فونتراى الذي سيخيطها بين طيّات معطفه، ويتنكر في زي راهب من الوعّاظ المتجولين.. إلى أن يصل إلى إسبانيا، فإذا حصل على توقيع الملك الإسباني أعادها مرةً أخرى إلى طيّات معطفه، وتُسلّم إلينا..
ـ كن على حذر يا سان مار، وقل لرسولك هذا ألا يمتطي جواداً، فالوعاظ يسيرون على أقدامهم.. ولا شك أنك تعلم أن رجال الكاردينال في كل مكان.. في الجبال المقفرة.. في الوديان المزهرة.. في البيوت.. في القصور.. في الأكواخ.. ولنكن حذرين ألا يسير الرسول مع أحد، وألا يفارق معطفه حتى في عزّ شمس إسبانيا الصيفية الحارقة..
bull; ترى هل غفل الكاردينال عن هذا الذي يدبر في ذكاء وفطنة وسرية؟!..
في الحقيقة لم يكن غافلاً، لقد نقل إليه رجاله كل كلمة دارت في ذلك الاجتماع، ومع هذا فهو لم يبادر بإلقاء القبض على المتآمرين، رغم معرفته الأكيدة أن المعطف يحتوي على الصيغة التي تؤكد على الخيانة!!
إلا أنه كان ينتظر أن يحصل على توقيع فيليب الرابع عليها.. ليرغمه على التنازل عن كل مطالبه في جنوب فرنسا لقاء أن يسكت عن فضيحته!!
أما كيف سيتمكن الكاردينال الأحمر ريشيليو من الحصول على الوثيقة المخاطة في معطف رجل بهيئة راهب، فإنه أرسل خلفه رجلين من أعتى رجاله ولديهم خطة بالحصول على النسخة الأصلية للمعاهدة دون أن يشعروا فونتراى الذي يحملها في باطن معطفه بذلك..
لقد اختار لهذه المهمة رجلاً اسمه لوبار عُرف بخفة يده في السرقة..
bull; فما أن وقّع الملك فيليب الرابع على المعاهدة وقام فونتراى بخياطتها مرةً أخرى في معطفه الكهنوتي، وبدأ رحلته عائداً إلى فرنسا، حتى كان السارق الشهير لوبار بانتظاره في الممر الضيق ما بين جبال البرانس، وكان زميل لوبار إدمون، يتابع الراهب المزيف عن كثب بينما تنكر لوبار في زي أحد رعاة الأغنام.. وبعد أن اتخذ لنفسه كوخاً صغيراً على سفح الجبل..
واقترب فونتراى بمعطفه الثقيل يجوس الطريق بعصاه ويسير سير المحاذر اليقظ، حتى إذا بلغ الراعي فألقى عليه التحية، وقال له:
- ليلة طيبة يا أيها الراعي الساهر في الليل رغم هذا الجو المضطرب..
ـ ليلة طيبة يا أبتاه.. فيم اقتحامك هذا الطريق الوعر في هذا الليل المخيف؟!
ـ الواجب يا بني.. الواجب يناديني.. ما كان لخدم الله أن تثنيهم وحشة الليل، ولا أن تقعدهم وعورة الطريق عن القيام بواجب الله..
ـ لكن الله رحيم بعباده يا أبتاه.. اجلس وجفف ثيابك المبللة على حرارة النار، وإنك لتستطيع أن تفعل غداً ما تريد أن تفعله الليلة.. اجلس يا أبتاه..
ـ الحق أنني متعب يا بني.. سأجلس ساعة.. فهل أجد لديك ما آكله؟!..
ـ على الرحب والسعة أيها الأب الجليل.. هذا كوخي الحقير، اختزن فيه شيئاً من الطعام وقليلاً من النبيذ.. لعل في قدومك ما يخفف آلام ابنتي المريضة..
ـ ألديك ابنة مريضة؟!
ـ أجل يا أبتاه.. إنها في الكوخ.. بعد أن ماتت أمها وتركتها وحيدة في هذا المكان البعيد.. أرجو أن تباركها حين تصل إلى الكوخ يا أبتاه..
ـ الرب رحيم يا ولدي.. الرب رحيم.. كيف تشعر في هذا المكان بالأمن يا ولدي.. ألا تخشى اللصوص؟!
ـ لست أخشى غير الصواعق والعقبات.. أما البشر فلا يجتاز هذا الممر منهم غير المهربين.. وهؤلاء لا يطمعون مني في أكثر من أن أدلهم على الطريق..
ـ الحق أيها الراعي أنني لا أدري كيف أشكرك.. وسأدعو الله أن يشمل ابنتك برعايته.
bull; وبينما هما في الطريق معاً تعثّر فونتراي في حفرةٍ عميقة كان لوبار قد أعدّها له، وما أن سقط فيها حتى هرع لوبار الذي كان يسير أمامه صائحاً:
ـ هل أنت بخير يا أبتاه؟!
ـ لقد وقعت في حفرةٍ عميقة يا ولدي، أنقذني بحق السماء.
فأمسك لوبار بمعطفه محاولاً سحبه من الحفرة، فانخلع المعطف بيده.. فصاح فونتراي:
ـ لا تلق بالمعطف؟!..
ـ اطمئن معطفك معي.. اطمئن.. وانتظرني لحظات يا أبتاه إذ سأحضر لك حبلاً طويلاً من الكوخ لأسحبك من الحفرة..
وأسرع رفيقه إدمون باستخراج نسخة المعاهدة الأصلية، ونسخها بسرعة متناهية واحتفظ بالأصل، ووضع النسخة المنسوخة مكانها وأعادها إلى مكانها في المعطف الذي أحكموا خياطته ثانيةً..
في هذه الأثناء كان لوبار يتباطأ في محاولة إنقاذ الراهب المزيف..
والحق أن الكاردينال ريشيليو قد اختار لهذه المهمة إثنان من الدهاة في مجال اختصاصهما مثل لوبار اللص الشهير وإدمون الذي اشتهر بتزييف المخطوطات، حيث قاما بدورهما على خير وجه..
bull; وتصل المعاهدة الأصلية إلى يد الكاردينال وعليها توقيع المتآمرين، دوق دورليان شقيق الملك، والماركيز سان مار، والماركيز فونتراى الذي كان ينقلها مخاطة في داخل المعطف، وأخيراً توقيع فيليب الرابع ملك إسبانيا.
و ما أن يصل فونتراي إلى باريس حتى يسارع بالاجتماع بكل المتآمرين في قصره في منطقة بوردو.. وفي اللحظة التي يمزقون فيها المعطف لاستخراج المعاهدة.. يجدون أنفسهم محاطون برجال الكاردينال يقفون فوق رؤوسهم، فيصيح الدوق دورليان في ثورة وغضب:
ـ إنني شقيق الملك.. وليس من حق الكاردينال أن يأمر بالقبض عليّ..
فيجيبه الضابط:
ـ لن نقبض على أحد يا صاحب الفخامة.. الأوامر التي لدينا هي أن نحصل على هذا المعطف، ونمنعكم من مغادرة القصر، حتى يحضر صاحب النيافة الكاردينال إلى هنا..
bull; وبعد ساعات قليلة يصل الكاردينال إلى القصر، ويختلي بالدوق دورليان..
ـ يا صاحب الفخامة.. لقد رأيت بنفسك أن معي الدليل الحاسم على خيانتك لصاحب الجلالة الملك شقيقك.. ولم يبق أمامك يا سيدي سوى أن تستغفر لذنبك وأن تطلب الرحمة من الله، وأنا بدوري أعاهدك على إنقاذ رأسك من حبل المشنقة إذا أنت ساعدتني على كشف الستر عن الحقيقة كلها.. أريد الأسماء كلها.. من أكبر متآمر.. إلى أصغر جندي يعرف بالمؤامرة ويوافق عليها.
* * *
bull; بذلك الاعتراف المفصل لجميع أسماء المتآمرين، ودور كل منهم، حصل الكاردينال على كل المعلومات للقضية التي عُرفت في التاريخ باسم (قضية سان مار) القضية التي طارت فيها رؤوس (27) من نبلاء فرنسا، ممن كانوا يريدون الإطاحة بحكم لويس الثالث عشر، ووزيره الكاردينال الأحمر ريشيليو!!
* * *
bull; لا أدري لماذا قد ارتسم في ذهني وأنا أقرأ ما لخصته لقراء ايلاف صوراً لعدد من قادة الربيع العربي، وتحديداً محمد مرسي والغنوشي وغيرهما من الملتحين ممن آلت إليهم الهيمنة عقب هذا الربيع ؟؟!!.. ربما لأن عينة الكاردينال.. لا تختلف كثيراً عن نوعياتهم، فكلهم بن لادن، وكلهم ظواهري، وكلهم أشبه ما يكونوا بالسلفيين.. لكن الكاردينال في الرواية التي جئنا عليها كان أكثر ذكاءاً وحنكةً، فأسلوبه يستند الى القانون، بينما هم يستندون الى قال ؟؟!!.. والعنعنة؟؟!!..