ليت أن لي مثل حظوة رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، فأصل غزة يحف بي حرس الحدود من كل جانب، ثم انني أعرف على نحو مؤكد أن بوسعي المغادرة أنى شئت، بحكم أن العمل الوطني يفتح كل باب، ويشرّع أية نافذة.

كلا، هذه لن تحدث أبدا، أنى لي هذا. لكنني، وهنا الأهم، لو كنت محل السيد خالد مشعل، لكنت في غزة اعتصمت، وما غادرت إلا وقد أرسيت أساس إعادة لُحمة النسيج الوطني الفلسطيني، فأسهمت في اطفاء ما اشتعل من نار فتنة، ساهمت في إذكاء وقودها حركات حكمت، وأخرى عارضت ثم انقلبت فحكمت، إضافة الى جبهات وأحزاب هُمِشَت أدوارُها، وحُجِّمَ تأثيرُها فارتضت وسكتت.
أيفعلها أبو الوليد، فما يخرج من غزة إلا إلى رام الله، ليعود فيدخل يداً بيد محمود عباس؟
دعونا نقل، معاً، إن شاء الله.

إسرائيل المهزومة... باختيارها
مخز حال اسرائيل في الأمم المتحدة، إذ ترقب لاءتها هي وثمانية أعضاء فقط، بينهم واشنطن ولندن، بمواجهة نعمَ مئةٍ وثمانية وثلاثين دولة. ثم إن الواحد والأربعين عضواً الممتنعين عن التصويت، حياداً، كانوا عملياً يقولون quot;لاquot; لإسرائيل الغُرور المصرة على عنت تتبع خطى الغَرور.
عجيب يبدو غباء حكام تل أبيب، في التحليل المنطقي لأي تطور محلي، أو إقليمي وعالمي. إذا كانوا هم أنفسهم لم يوفروا أي وقت في الاستخفاف بشأن ترفيع صفة فلسطين إلى دولة مراقب، فما ضرّهم لو أيدوا القرار وأظهروا، ولو بالخداع، أنهم مستعدون لترقيع ثوب التفاوض مع الفلسطينيين، ثم وصل ما منه انقطع؟
غباء، أم ممانعة محسوبة، بحيث يبدو ما تحقق بحجم نصر كبير يستحق كل هذا الضخ خِطابة وشِعراً، وكل ذاك النفخ تهليلاً وتكبيرا.
لا أدري، إنما أعرف، وغيري كثيرون، أن محمود عباس جدير، أكثر من غيره بين قيادات الفلسطينيين، بكل احترام وتقدير من جانب ساسة إسرائيل، إنْ هم كانوا صادقين حقا في رفع همّ الحروب عن شعبهم.
ترى، هل الذاكرة الإسرائيلية، وغيرها، ذات حبل قصير، أم هي انتقائية؟ ألم يضع أبو مازن روحه على كفه، ويستعد للبس كفنه، منذ قرر بين القادة المؤسسين لحركة فتح أن يكون أول من شجع على فتح أبواب الحوار الفلسطيني ndash; الاسرائيلي؟ ومن سوى محمود عباس كان راعي نشاط الدكتور عصام السرطاوي، الذي دفع الثمن باغتياله أمام أحد فنادق لشبونة (10نيسان/ابريل1984) فيما كان واقفا الى جوار شيمون بيريز.
أكثر من ذلك وأحدث زمنياً، أوكانت اتفاقات أوسلو لتتم، بعد الالتفاف على وفد تفاوض تقوده صلابة الدكتور حيدر عبد الشافي وحكمته، كما تعززه كفاءة الدكتورة حنان عشراوي وثقافتها العالية (من دون أي انتقاص من أهمية بقية المقتحمين معركة التفاوض بدءا بمدريد) أكان لهكذا التفاف أن يتم بلا مؤازرة محمود عباس للرئيس ياسر عرفات؟
وماذا عن الشراكة السياسية التي جمعت الرئيس عباس مع يوسي بيلين، يوسي ساريد، وشيمون بيريز؟
أينسى ساسة إسرائيل كل هذه الإسهامات العباسية المبدئية في المسار السلمي، التي يجوز القول انه بمثابة فضل عليهم وعلى شعبهم، من جانب محمود عباس، لمجرد أن حمق بنجامين نتانياهو هو الآن صاحب الكلمة الفصل، أم لأنهم، هم أيضا على اختلاف أطيافهم، غير جادين في بلوغ سلام حق وعدل، وليس صفقات زيف وخداع، تهدىء الحال بضع سنين، كي يشتعل من جديد، فيستمر القتل ويتواصل تدمير معظم ما حصل من تعميرٌ، عما قليل؟ أيضاً، لست أدري، لعلكم أعرف وأدرى.

ابن العم... عميل
عُذراً لأن أشرك قراء quot;إيلافquot; والقارئات في أمر خاص، إنما ما هو ببعيد عن شأن عام سبق قبل قليل الحديث عنه. منذ ليل اربعاء قصف إسرائيل الهمجي لغزة (14نوفمبر) بدأت معاناتي، كما كثيرين غيري في منافي الغربة، إذ تتداخل مشاعر وتتضارب أحاسيس، خصوصا كلما تعرض ضمير الفلسطيني المغترب لوقع القصف ذاته، كما لو ان القنبلة تمزق منه ومنها الجسم كله، ولو لم تسل نقطة دم واحدة، فالعقل ينزف والقلب يئن بإحساس التقصير، ليتني كنت هناك، معهم وبينهم.
لئن كان هذا هو الحال، لكم تصوّر ما يمكن أن يصيبني منذ أدركت أن ابن عم لي، جرى إعدامه بعدما أدين بالعمالة. أول ما سمعت، هاتفياً وبشكل عابر، لم أتوقف كثيراً على رغم الصدمة، بل كانت خلاصة رد الفعل انه طالما اعترف يستحق ما نال من عقاب، ثم انني لا أعرفه، وهو ليس من ذرية أشقاء والدي، فما يعنيني من أمره شيء. لكن ذلك كله لم يلغ حالة حزن تخص زوجته وأولاده، ما ذنبهم، تساءلت ذاك المساء، وكيف سيواجهون الحياة، البنات خصوصا قبل الأولاد منهم، وقد لطخت أنانية خيانة والدهم وجرمها (نعم، لولا الأنانية ما تقع جريمة الخيانة) حيواتهم أجمعين، وربما تقفل أبواب أي نجاح يحتمل أن يحقق أي منهم في المستقبل.
كل هذا كوم، كما يقال، وما صفع بصري صبيحة ثالث أيام الحرب كوم آخر. صباح ذلك النهار، قصدت موقع غوغل باحثا عن مقالة قديمة لي. ما أن انتهيت من وضع اسمي، حتى ظهر لي ما لم يبلغني من قبل عن quot;ابن العمquot; ذاك. صدمني عنوان مختصر مذيل تحت اسمه يزعق زاعماً ان (...) اعترف بأنه أرشد الاسرائيليين الى القيادي في حركة حماس، أحمد الجعبري، وشارك في اغتياله.
فوراً استعدت الصورة التي شاهدها ملايين الناس. أعني عملية قصف سيارته واغتياله كما بثتها شاشات فضائيات عدة عبر العالم كله، ومن ثم كانت الشرارة التي أشعلت نار حرب الثمانية أيام.
اصابتني حالة اختلط فيها الغضب بالذهول، واشتد الأمر عليّ، فنال السخط مني ما ليس بوسعي وصفه. لقد اختلفت الصورة، فثمة فرد يحمل إسم عائلتي اعترف انه من أرشد إلى أحمد الجعبري. فجأة تمددت أمامي، في غرفتي، جثامين كل الضحايا، اعتبرت أن نصيباً من دم كل منها معلق برقبة ذاك الشخص. سارعت الى مهاتفة شقيقي المحامي في غزة. استمع لي. ردّ علي محاولاً تهدئتي، قال انه لم يقرأ ما قرأت على غوغل. ثم فاجأني بالقول ان ذاك الشخص كان رهن الاعتقال في مقار أمن حركة حماس منذ ثمانية أشهر، وأن لديه محام يترافع عنه في تهمة التجسس الموجهة اليه، لذا فوجىء الجميع بإعدامه. لم تنجح محاولة شقيقي في إلغاء غضبي تماما، خففت من حدته، نعم، لكنني ألححت عليه أن الواجب الوطني، وليس العائلي فقط، يوجب تبيان الحقيقة، قلت إن المسألة ليست محصورة بعمالة فرد، بل هي أخطر من ذلك بكثير، يجب أن توضح حكومة حماس نفسها، إن كان ذاك الشخص، كما تتداول مواقع عدة على الانترنت، أقر فعلا بأنه من أرشد الى أحمد الجعبري، وهل أن إقراره ذاك كان بحضور محام، وكيل نيابة، أي ممثل لجهة قضائية، إن مسؤولية من يحكم أن تكون أحكام أجهزته بشكل عام نزيهة، دقيقة، موثقة، فما بالك عندما يتعلق الحكم بإعدام جاسوس على خلفية الإقرار بأنه أرشد قتلة الجعبري الى سيارته، أليس من استشعار هنا لثقل المسؤولية؟ ولئن صح أن عميلاً مُعتقلاً بسجن جهاز أمن يستطيع إرشاد الطائرات الاسرائيلية لسيارة أحمد الجعبري من زنزانته، أفلا يصح التساؤل: كيف جرى ذلك، وأين كان من يحرس العميل المعتقل فيحول دونه ودون ارتكاب جرمه ذاك؟
إن تبيان حقيقة هذا الأمر ليس شأنا عائلياً فقط، رغم انه يعين بقية أفراد أسرة ذاك الشخص على تحديد موقفها، وهذا في حد ذاته من بديهيات حقوقها تجاه الجهات المعنية، بل هو واجب وطني أيضا. لقد أمسكت هنا ضمن مقالتي هذه عن ذكر إسم الشخص، إمساكاً عن الترويج لما لست متأكداً منه، وليس يعنيني وجود الإسم على موقع غوغل الى جوار اسمي، ما يعنيني ويهمني هو أن تتبين حقيقة ذلك الاعتراف على نحو مؤكد، ليست تشوبه أية شبهة. تلك مسؤولية الجهات المعنية في حكومة حماس، هي مسؤوليتها أمام الله أولاً، ثم تجاه كل من يشترك مع ذلك الشخص في إسم العائلة، ومن ثم يكون لي كفرد وأسرة، أعني ولديَّ الاثنين وابنتي، الموقف الذي يريح القلب ويرضي الضمير. ولهذا الحديث المؤلم عودة، إنما أصبر في انتظار التوضيح.