من منطلق مِهني دقيق، حريّ بي الاعتراف بتأخر الكتابة تعليقاً على ما قرأت قبل اسبوع (الأحد 30 أيلول). أعني ما نشرته quot;التلغرافquot; اللندنية بشأن تمرير بشار الأسد رقم معمر القذافي لجهاز استخبارات فرنسي، وما زُعِم عن دور نيكولاي سركوزي في التخلص الفوري من الطاغية الليبي. تلك كانت قصة صحافية من الدرجة الأولى، ومن الواجب تقدير جهد أربعة صحافيين اشتركوا معاً في تجميع معلوماتها، هم: أدريان بلومفيلد، نك سكوايرز، هنري صاموئيل، وروث شيرلوك.
بيد أن نفي الشك عن الحبكة المِهنية، لم يحل دون التشكك، إذ تساءلت: وهل استخبارات فرنسا سركوزي بحاجة الى
خدمات بشار سوريا، لمعرفة رقم الهاتف أروديوم الخاص بالقذافي؟ تساءلت وأجبت، ممكن طبعاً، ففي كل الأحوال، معروف أن أجهزة الاستخبارات تعين بعضها البعض، حتى في حالات وجود خصومات سياسية بين الحكومات، وخصوصا حين يتعلق الأمر بمطاردة خصوم سيساسيين. ولأن حكاية يمكن أن توحي بأخرى ذات صلة، تساءلت هل سيحتاج جهاز استخبارات ما، خدمة ما، من طرف عربي ما، لتمرير رقم ساتلايت بشار الأسد، في حال آن أوان القبض عليه والتخلص منه؟
دستور ليبيا ما بعد الديكتاتور
تحل الذكرى الأولى (20 الشهر الجاري) لإعدام القذافي بعد أيام بينما ينشط في ليبيا وخارجها جدل مهم بشأن دستور ليبيا ما بعد الديكتاتور. في هذا السياق بلغني أن السياسي الليبي محمود شمام أعلن قبل بضعة أيام موقفا مسانداً للعودة الى دستور العهد الملكي، إذ أطلق على صفحة فيسبوك الخاصة به الدعوة التالية: quot;نعم لعودة دستور 1951. كلما أمعنت النظر في الخيارات المطروحة والواقعية لمستقبل ليبيا السياسي لا أجد قاطرة تنشلنا من اجواء الانقسام والتشرذم سوى دستور 1951 الشرعي.. كنت مع ابراهيم صهد من كتب الصياغة النهائية لبيان مؤتمر لندن عام 2005 بعد نقاشات مستفيضة في القاعة.. وطالب البيان بعودة الشرعية الدستورية للبلاد.. واليوم وفي ظل هذه الاوضاع الخطيرة أكرر الدعوة لتبني دستور 1951 بعد تعديله بما يتناسب مع التطور التاريخي والسياسي دون المساس بمبادئه الاساسية. كان اجدادنا اكثر منا حكمة وعيا.. واصدق وطنية.. وابعد نظرا.. واقل قبولا للضغوطات... اريد ان افتح نقاشا موضوعيا ووطنيا حول هذا الموضوع وفي صلبه... الرجاء الالتزام بأساسيات النقاشquot;.
ليست لديّ صفحة فيسبوك، وصلتني دعوة السيد شمام عبر الإيميل من صديق يعرف اهتمامي بالشأن الليبي، لذا لست على دراية بردود الفعل على الدعوة، إنما هي تعيد الى الذاكرة حقيقة أن السيد محمد بن غلبون، مؤسس الاتحاد الدستوري الليبي قبل واحد وثلاثين عاماً (07 أكتوبر 1981) كان في مقدمة الشخصيات الليبية التي تصدت لطغيان معمر القذافي داخل الوطن أولاً، ثم من المهجر، وعانى وأسرته، كما غيره من المعارضين الليبيين الأوائل، الكثير من مطاردة أجهزة النظام وأدواته، بما في ذلك محاولة الاغتيال. ومنذ البداية انتهج محمد بن غلبون نهج التمسك بدستور 1951 وظل على هذا الموقف حتى يومنا هذا، وآخر محاولة له، والأرجح لن تكون الأخيرة، عبّر عنها برسالة مفتوحة وجهها الى السيد مصطفى عبد الجليل ونشرتها صحيفة quot;الشرق الأوسطquot; بتاريخ الثاني من يوليو الماضي.
ليس لي موقف هنا، ورغم أن ليبيا بأرضها وأهلها سكنت القلب مني، منذ تنفست هواء بنغازي في العشرين من عمري، وبدأت احترافي الصحفي تحت سقف دار quot;الحقيقةquot;، مع ذلك، يظل الموقف الأمثل في شأن داخلي محض كهذا، هو الأخذ بمثل حصيف: quot;يا غريب خليك أديبquot;. الحق انه من الحكمة، وليس الأدب فقط، ترك الموقف بشأن دستور ليبيا ما بعد الديكتاتور، لليبيين وحدهم.
شلقم، رشاد الهوني، وقذاف الدم
أقرأ كتاباً مهماً للسيد عبد الرحمن شلقم (أشخاص حول القذافي) لم أفرغ منه بعد، ولعلي أعود الى مراجعة أشمل له فيما بعد. توقفت أمام ما ورد في الكتاب في ما يخص استاذي رشاد الهوني. يقول الاستاذ شلقم في الصفحة 328 من الطبعة الثانية لكتابه، ما يلي: quot;نعود إلى لندن، ففي أثناء حديثي مع رشاد الهوني طلبت منه العودة إلى ليبيا، وأن بإمكانه تأسيس صحيفة، وبطريقته الساخرة قال رشاد: أنا سأبقى هنا في بريطانيا لأن فيها قانوناً، وأنا مستعد أن أقاتل للدفاع عن هذه البلاد الديمقراطية، وأشار إلى أنه رفع قضية ضد مواطن بريطاني فكسبها في حين سجن في ليبيا بتهمة إفساده سيد قذاف الدم، قال إن سيد ليس بحاجة إلى من يفسده، فهو قادر على إفساد القارات الخمس، والمفارقة، كما يقول رشاد الهوني، إنه في اليوم الذي أدخل فيه هو إلى السجن، بتهمة إفساد سيد، عُيّن هذا الأخير نائباً لرئيس جهاز الأمن الخارجي. فهل يجوز أن يعين فاسد في هذا الموقع؟ ورفض رشاد العودة إلى ليبيا طبعاً.quot;.
***
ليس بوسعي المرور بالفقرة أعلاه ثم أدعها تمر، كأنما هذه هي كل حكاية رشاد الهوني مع معمر القذافي وانقلابه. ليس يساورني شك أن الاستاذ شلقم يعرف أن رشاد الهوني حوكِم، مع عدد من رؤساء ومدراء تحرير صحف ليبية عدة، سنة 1972 أمام ما سُمي quot;محكمة الشعبquot;، التي أدى quot;دورquot; رئيسها الرائد بشير هوادي، فيما تولى quot;دورquot; المدعي العام الرائد عمر المحيشي. ويذكر الاستاذ شلقم، بالتأكيد، أن عدداً من الصحافيين كانت لهم مواقفهم الجريئة أثناء وقائع المحاكمة، ومن هؤلاء، على سبيل المثال، الراحل الاستاذ عبد القادر طه الطويل، الذي كان يوظف أسلوبه اللاذع في السخرية من المحكمة والمحاكمة. أما الأستاذ رشاد الهوني، فكان صاحب الموقف المشهود له بالأكثر جرأة، خصوصاً في الرد على استفزازات عمر المحيشي، ومن ذلك رده على مساءلته لماذا كتب مقالة quot;الديوك المخصيةquot;، قاصداً كبار القادة العسكريين المسؤولين عن هزيمة حزيران 1967 (أشار اليها الاستاذ شلقم) فتمسك بمقالته تلك، ورفض التراجع عنها، وكان له موقفه الجريء في إعلان محبته وأسرته للملك إدريس السنوسي، إذ خاطب المحكمة قائلا إنه ينحدر من عائلة تحب الأسرة السنوسية، فشقيقه الأكبر محمد، يليه إدريس، ثم السنوسي، وهو الأصغر، بمعنى أن إسم الملك (محمد إدريس السنوسي) موجود داخل الأسرة. وحين اعتقد المحيشي أنه سيحرج quot;المتهمquot; رشاد الهوني بمستند مالي لوح به، صارخا أن دار quot;الحقيقةquot; مدينة للبنك المركزي الليبي بمبلغ ثلاثمائة ألف دينار، فوجيء ببرود رشاد وهو يرد، أن نعم، متسائلاً ما المشكلة، البنك ليبي، والمال مال البلد، والمستدينة مؤسسة ليبية.
قبل هذا كله وبعده، بالتأكيد يتذكر الاستاذ شلقم أن نص quot;الاتهامquot; الموجه للصحافيين الماثلين أمام quot;محكمة الشعبquot; تلك، هو إفساد وتضليل الرأي العام. إذاً، هل يمكن اختصار معاناة رشاد الهوني مع فساد حكم معمر القذافي، وفساد من استطاع شراء ذممهم وضمائرهم، فقط بما يخص رشاد وسيد قذاف الدم؟
لست، بالتأكيد، أقصد نفي ما تتضمنه الفقرة المشار اليها أعلاه من سخرية منسوبة لأستاذي رشاد خلال دردشة يروي الأستاذ شلقم في الصفحة السابقة (327) خلفياتها شارحاً أنه أتى لندن سنة 1982 حين كان وزيراً للإعلام بتكليف من القذافي ليلتقي الاستاذ رشاد، الذي quot;كان من أكبر الصحفيين والكتّاب الليبيين، أسس مع شقيقه المرحوم محمد الهوني صحيفة quot;الحقيقةquot; في بنغازي التي أصبحت منبراً نهضوياً وتنويرياً وطنياًquot;، كما يكتب الاستاذ شلقم، منصفاً الشقيقين، محمد ورشاد، في شأن التأسيس لصحافة متميزة، إن في ليبيا أو خارجها.
ولأن الشيء بالشيء يُذكر، أختم في هذا الشأن بتحية للدكتور سالم الكبتي الذي أصدر سنة 2006 كتاب (زيت القناديل، رشاد الهوني.. سيرة ونصوص) وجعل على غلافه لوحة زيتية رسمها الفنان الكبير حسن فؤاد، ومن قبل أصدر الدكتور الكبتي أيضا كتاباً عن الصادق النيهوم، الذي بدأت نجوميته على صفحات quot;الحقيقةquot; ليصبح واحداً من أهم الكتَاب والمفكرين العرب على مستوى عالمي.
بيد أن الصادق النيهوم نفسه، وكثيرين غيره من مفكري ليبيا، أدبائها، شعرائها، مثقفيها، وإعلامييها، حتى غير الليبيين منهم الذين عملوا فيها، كما حالتي، يتحملون بشكل أو بآخر نصيباً من مسؤولية تحول جُبن معمر القذافي، ومن شاكله في أنظمة استبداد مشابهة، إلى اجتراء يُسمى، خداعاً، quot;شجاعةquot;، ويستمرىء المخدوع والمُخادِع لعبة الكذب، فإذا بضابط ملازم هو quot;قائد الفاتح العظيمquot;، وإذا بالجميع أمامه، إلا قلة قليلة، كما قطيع يهرول، كأنما quot;الأخ الأكبرquot; خرج للتو من عقل جور ج أورويل.
أيعقل هذا؟ أربعون عاما من خضوع وهرولة، قل ثلاثين، لتكن خلال العشرة الأولى سنوات غفلة، من المسؤول، هو فقط، أهو وحده ذاك المُدَمِّر. ثم ها نحن، الآن، أمام ما يفعل نظام بشار الأسد استمراراً لما فعل أبوه، من قبل، وأركان حكمه. أويغسل الكل أيديهم من كل فعل، أعني فعل لسان وقول، ريشة ولوحة، جريدة ومانشيت، مجلة وغلاف، كتاب ونشر، وهلم جر. أيكون اللوم موجهاً لبسطاء الناس وحدهم، بينما أهل الفكر والقلم مبرؤون من كل مسؤولية؟
سؤال مزعج، إنما يظل بانتظار ما قد يأتي أو لا يأتي، إجابات شجاعة.
التعليقات