يقول مثل فرنسي: إن التفكير باللاشيء لا يعني عدم التفكير بشيء، penser le rien nrsquo;est pas penser agrave; rien.
بات من الواضح اليوم أن العلماء متفقون تقريباً على أن ما يعرفونه عن الكون المرئي ليس سوى غيض من فيض، أو بعبارة أخرى أنهم لا يعرفون الشيء الكثير وإن كل ما يعرفونه لا يتعدى النظريات والفرضيات المصحوبة بجملة من المعادلات الرياضية المعقدة والغامضة والصعبة جداً لتبرير هذا الاستنتاج النظري أو ذاك، وتدعيم وجهة النظرة هذه وتفضيلها على تلك، وذلك لفترة زمنية محددة ريثما يظهر ما يدحضها أو يثبت خطأها أو العكس. هذا هو واقع الحال فيما يخص مسألة أصل الكون المرئي التي لم يعد مجرد مشكلة عويصة يمكن أن نعثر لها على حل ممكن يوماً ما بل باتت اليوم طلسماً وسراً يستعصي على الحل.

ومن الجلي أيضاً أن أغلب العلماء يتمسكون بما لديهم من نظريات ومعتقدات ومسلمات ولا يحبذون التخلي عنها أو تقبل نقضها بسهولة. ومن هذه المسلمات أن العلم متمسك بفكرة ويعمل على تنفيذها ألا وهي محاولة فهم الظواهر وكيفية حدوثها وليس أسباب وغايات حدوثها، أي التركيز على الكيف على حساب الـ لماذا.

ويزداد الأمر تعقيداً وصعوبة عندما يتعلق بموضوع الكون المرئي وسؤال كيف ظهر هذا الكون المرئي ولماذا ظهر؟ وهنا نكتشف عجز العلم عن تقديم الإجابات القاطعة والنهائية التي لاتقبل الدحض ولا الطعن. تمكنت الفيزياء la physique والكوزمولوجيا أو علم الكون la cosmologie من تقديم بعض الأجوبة المقنعة فيما يتعلق بالشطر الأول من السؤال أي كيف ظهر الكون لكنهما عجزا عن تقديم أية مقاربة مقنعة ومقبولة عن الشطر الثاني وهو لماذا ظهر الكون وما الغاية منه؟ ناهيك عن تحديد مصيره ونهايته، إن كانت هناك نهاية محتملة له كما يعتقدون. وحتى عندما يتناهون لدراسة الأصل والبداية لهذا الكون المرئي ويعالجون هذه المسألة فإنهم يصطدمون بنفس العقبات التي واجهت وتواجه الثيولوجيين والقائمين على المؤسسات الدينية في الأديان السماوية الرئيسية الثلاثة والأديان الأرضية الوضعية كالهندوسية والبوذية وغيرها، ويسقط العديد منهم في هوة التفسيرات والأطروحات الميتافيزيقية حسب تعبير خصومهم.

وعلى ضوء المنجزات العلمية الحديثة والتقدم التكنولوجي الهائل والأجهزة والمعدات العلمية والتقنية المتطورة، يعمل العلماء اليوم على صياغة نظرية وحيدة وواحدة جامعة وشاملة قادرة، بلغة المعادلات الرياضية، على وصف واستيعاب وجمع القوى الجوهرية الكونية الأربعة التي تنظم وتسير وتدير الكون المرئي وتتحكم به حسب تصورهم، ويسمونها نظرية كل شيء theacute;orie du tout. ولو افترضنا أنهم سينجحون يوماً ما في التوصل إلى هذه النظرية المعجزة، فهل ستتمكن هذه النظرية فعلاً من إزالة الحاجز القائم بين العقل والذكاء البشري الحالي ومعضلة الأصل الحقيقي le vrais origine de lrsquo;univers، وليس الافتراضي، للكون المرئي؟ وماذا لو كنا قد خدعنا على نحو ما، بالطريقة التي روت لنا حدث الانفجار الكبير وتلك الفرادة la singulariteacute; الكونية التي اعتبرت بمثابة النقطة أو اللحظة صفرle point ou lrsquo;instant zeacute;ro التي افترضوا أنها تزامنت مع وقوع هذا الحدث التأسيسي الذي خلق بدوره كل ما هو موجود اليوم من خلال فكرة انبثاق الكون أو بالأحرى الكينونة الكونيةlrsquo;univers ou lrsquo;ecirc;tre univers من العدم neacute;ant. والحال لاشيء يؤكد أو يثبت لنا أن لهذا الكون المرئي المرصود الذي نعرفه وندرسه ونعيش فيه، بداية وأصل معلوم، فطالما لم يتمكن العلماء من تسلق جدار بلانك mur de Planck والعبور إلى الجانب الآخر منه الذي سبق الانفجار الكبير، فإنهم لن يفلحوا في الوصول إلى الجواب الحقيقي لما كان موجوداً قبل الوجود الفعلي المادي للكون المرئي، أياً كانت طبيعة وماهية ذلك الوجود الافتراضي السابق للوجود المادي.

في البدء كانت المعلومة:
علينا أولا وقبل كل شيء، وأمام هذا المحيط الهائج من الأفكار والنظريات، العلمية والدينية والفلسفية وغيرها، أن نكون دقيقين في استخدام المفردات والمصطلحات والمفاهيم والصياغات اللغوية كي لا نضيع في متاهة التفسيرات والتأويلات والشروحات. ولنشرع بوضع فرضية hypothegrave;se وجود quot; أصل origine quot; ما بالمعنى الدقيق والصارم للكلمة، ونقول لأنفسنا أن هذا المفهوم ليس فقط محاولة لوصف وشرح المراحل الأقدم لنشأة كوننا المرئي فحسب، بل هي بمثابة تساؤل حول عملية العبور من quot; غياب كل شيء absence de toute chose، الذي يمكن أن يعادل في إطار الفهم البشري العدم neacute;ant، إلى حضور شيء ما أو كينونة ما على الأقل preacute;sence drsquo;au moins une chose ou un ecirc;tre ما يعني أننا أمام استحالة إدراك أو استيعاب كيفية تحول العدم أو جزء منه إلى نقيضه أي الوجود، وتوقفه أو تعطله عن أن يكون عدماً؟ من هنا منشأ الصعوبة لفك أسرار هذه المعضلة. كل الروايات والنصوص التي تحدثت عن، ووصفت، ولادة الكون المرئي افترضت وجود مايسبق العالم preacute;monde، و تخيلت العالم الأصلي بانتظام، على أنه مملوء بشيء ما سماه المتدينون الماهيات الإلهية، والتي لم تخرج من العدم البحت، بعبارة أخرى أن العالم ينبثق دائماً من جوهر ومكان مجهول لا نعرف كنهه، أو من واقع مغاير لما نألفه، كان في حالة انتظار لا محدود زمنياً وخصب جوهرياً، ومستعد في أي وقت للتحول إلى مادة matiegrave;re، بكل أشكالها المعروفة والمجهولة، الظاهرة والخفية، الملموسة ونقيضها كالمادة المضادة مثلاً، وإيجاد زمان ومكان متداخلين ومندمجين في وحدة الزمكان حيث يمكن أن يتحول أحدهما إلى الآخر في ظروف معينة، إلى جانب كل أنواع الطاقة، الظاهرة، والخفية، المعتمة أو الداكنة، حيث يمكن أن تتحول الطاقة إلى مادة وبالعكس. وكل ذلك يحدث لأول وهلة في العتمة والظلام الدامس قبل ظهور الضوء. فالبداية الفعلية للخلق تحدد بظهور أول شعاع للضوء وإلغاء أو إنهاء حالة العماء التام. فكل الحضارات البشرية، القديمة منها والحديثة، تحدثت عن هذه الحكاية الأسطورية. فالمصريون القدماء، على سبيل المثال، صوروا ما قبل العالم هذا، الموجود في فراغ أسود ومعتم تماماً، على إنه محيط بدئي، أصلي وأولي، جوهري وأساسي primordial، وهو عبارة فوضى عارمة على شكل دوامة كونية هائلة، بلا قوانين ولا استقرار، حيث لم يخرج للوجود بعد، لا الحياة ولا الموت، فقط مياه نون Noun الداكنة التي تتلاطم داخل هذا المحيط البدئي. ومن ثم قامت التدفقات والموجات اللامرئية بقذف الرمال والطمى الأسود والخصب على سواحل هذا المحيط. وتدريجياً تشكل تل. وفجأة قرر الإله الخالق آتوم le dieu creacute;ateur Atoum، الذي تعب من الطوفان فوق مياه نون، الاستقرار فوق هذا التل. وكانت أول إشراقة للشمس على التل واتخذ الإله لنفسه هيئة الإنسان أو البشر واتخذ إسم رع آتوم Reacute;-Atoum. هذا هو ملخص أسطورة الخلق المصرية. وفي حضارة وادي الرافدين الميزوبوتاميا Meacute;sopotamie، هناك ايضاً محيط بدئي وأولي أساسي،مضطرب يسبق كل شيء. عندما لم تتخذ السماء في الأعالي بعد شكلاً لها، وفي أسفل لم تتخذ الأرض إسماً لها بعد، كان هناك فقط آبسو Apsou، محيط المياه العذبة، و تيامات Tiamat، بحر المياه المالحة الخطر، تتلاطم موجاتهما العملاقة وتختلط في عناق بلا قرار وداخل حيز بلا حدود، ومن هذا الخليط وهذا الاتحاد، يولد بلا توقف عدد كبير من الآلهة، جريئة وعنيدة وفي حالة غضب عارم، تنمو وتتكاثر في كل يوم وتزداد قوة وجرأة. إلا أن آبسو خاف من تهديد أبنائه الآلهة وعزمهم على إطاحته من عرش الربوبية المطلق لذلك قرر تصفيتهم والتخلص منهم، تأثرت الآله الأم تيامات فقامت بمساعدة من إيا Ea، وهي اآلهة الإبنة الأكثر حذاقة ودهاءاً ومكراً، من بين جميع الأبناء،بوضع خطة لقتل آبسو، كما ورد في كتاب ولادة العالم حسب أكد للعالمين الفرنسيين بول غاريللي و مارسيل ليبوفتشيLa naissance du monde selon Akkad : Paul Garelli et Marcel Leibovici. أما الإغريق القدماء فقد كان لديهم في البدء الخواء أو العماء الكاووس Chaos كما يخبرنا نص التيوغوني Theacute;ogonie، اي النص المختص بنسب الآلهة الوثنية ويبحث عن أصلهم وتحدرهم، الذي ألفه هيسيودHeacute;siode. ويتحدث النص الإغريقي عن فراغ مهول ومعتم ظهرت في داخله الغايا Gaiuml;a، أي الأرض ذات الجوانب والأحضان العريضة التي كونت القاعد الراسخة التي لا تتزعزع للعالم. ومن ثم نشأ الإيروس Eros وهو إله الحب وأجمل الآلهة الإغريقية، والقادر على إخضاعها كلها لسحره كما هو قادر على إفتان البشر فيما بعد، ومن الكاووس أو العماء ولد ايضاً الظلام والشرورteacute;negrave;bres في الأعماق والليل المدلهم الدامس، ومن هذا الاتحاد نشأ الضوء في الأعالي ومعه ظهر النهار.وعند الصينيين القدماء توجد قصة البانغو Pangu الخالق حيث نعثر على أولى آثاره في كتب يعود تاريخها للألف الثالث قبل الميلاد. فلقد نمى بانغو طيلة آلاف السنين داخل بيضة وفيما بعد حطم قشرتها بفأس وبدأ العمل للفصل، بكل قوته، بين العناصر غير المكتملة، كما أمر بظهور الخواء الأصلي أو الكاووس الأساسي، ومن جراء عمله المضني، وبسبب تعبه وإرهاقه، تعثر وانزلق وكان من هول سقوطه أن عينيه قذفتا في السماء فأصبحت إحداهما، وهي اليمنى الشمس، والأخرى، اليسرى القمر، وعظامه كونت الجبال وعضلاته كونت الأراضي الخصبة وشرايينه كونت مجاري المياه وأوردته كونت الأنهار وأسنانه صارت اللآليء والحيوانات ولدت من اصابعه والبشر من قمله ses poux. وبالطبع هناك النص التوراتي الذي نذكر منه هذا المقطع بتصرف، حيث يبدأ الخالق اثره عبر الكلمة التي كانت هي البدء بتنظيم عالم أو كون كانت تختلط فيه كل المكونات، الأرض والماء والنور والظلام الخ قبل ظهوره للعلن، فقد خلق الله في البدء السماء والأرض، وكانت الأرض قاحلة وفارغة والظلام يغمر المحيط الأولي أو البدائي. كان نفس الله يطفو فوق سطح المياه ثم قال الرب ليكن النور فكان النور، رأى الله أن النور جيد ففصله عن الظلام وسمى النور نهاراً وسمى الظلام ليلاً وكان هناك مساء وكان هناك صباح وكان هناك اليوم الأول، إلى آخر القصة المعروفة التي كررتها بصيغ مختلفة ومتنوعة، النصوص المقدسة الأخرى المسيحية والإسلامية. وماذا حدث بعد ذلك؟ كل حضارات وأساطير الشعوب على مر التاريخ، وبمختلف الصيغ والحكايات والطرق، المتعلقة بقصة الخلق، التقت بنقطة مشتركة وهي ظهور وتنظيم تدريجي لنوع من quot; المادة matiegrave;re الأصلية originelle لم يحدد أصلها ومنشأها ومصدرها في أي نص أو رواية.
يتبع

[email protected]