قال أبو الفيزياء الحديثة غاليلو غاليله يوماً : إن كتاب الطبيعة كتب بلغة الرياضيات
le livre de la nature est eacute;crit dans la langue des matheacute;matiques
ماهي الوسيلة الأنجع والأكثر فعالية لفهم العالم الذي نعيش فيه؟ يرد البعض وبلا تردد إنها طريق العلم. إن اتباع المنهج العلمي للوصول إلى الحقائق ليس مجرد ترف أو فضول ثقافي، أو منهجية من بين عدد كبير من المناهج والسبل التي تقود البشرية إلى إدراك الحقيقة وكشف أسرارها، إن كانت هناك حقيقة ما تقبع في مكان مجهول من هذا الوجود. ولا يمكننا فهم هذا العالم المعاصر وتعقيداته إلا من خلال العلم ومنجزاته التكنولوجية، وإلا سنبقى نرواح على السطح الخارجي لظواهر الواقع التي تدركها الحواس، وللولوج إلى أعماق الواقع وسبر أغواره، لا بد من الغوص في قلب العلم وكشف جوهره المتمثل بقوانينه الكونية. الباحثون عن معنى للوجود والحياة وسبب وجودهما، وعن معنى الإنسان وغاية وجوده وهل هو وحيد في هذا الكون المرئي الشاسع أم أن هناك غيره من الكائنات، يبحثون أيضاً عن كيف وجد الكون المرئي ولماذا ومتى، هي نفس الأسئلة التي أرقت فكر الفلاسفة والعلماء والمفكرين والناس العاديين على مر التاريخ.
إن التعاطي مع العلم يعني معرفة قوانينه الجوهرية والتعامل معها لفهم علاقتها بسير وعمل الطبيعة والحياة وتطورهما، خاصة بعد أن هيمن الفكر الثيولوجي والأيديولوجيات الدينية والفلسفات على هذا المجال لقرون عديدة.
سفر التكوين العلمي :
يمكننا تلخيص مسيرة الوجود المادي ببضعة ارقام تقريبية وليست نهائية إلا أن لها دلالاتها الخاصة. إن عمر الكون المرئي الذي ندرسه ونعيش فيه ونعتقد أننا نعرفه، وكما حددته أجهزتنا القياسية البدائية، رغم التقدم الذي حققه البشر لغاية النصف الأول من القرن الواحد والعشرين، هو 13.700 مليار سنة من خلال تحليل أقدم طيف ضوئي وصل إلينا اليوم، وفي الحقيقة إن عمر الكون المرئي هو أقدم بكثير من هذا الرقم فهناك نجوم بعيدة جداً لم ننجح بعد في تقدير أعمارها الحقيقية وهي قطعاً أكثر من 20 مليار سنة حسب بعض التقديرات العلمية. وبعد مرور 300 ألف سنة تقريباً على ولادة الكون المرئي الافتراضية المربوطة بحدث الانفجار العظيم، ظهرت الذرات الأولية بفعل تفاعلات حصلت بين الجسيمات الأولية التأسيسية. وبعد مرور مليون سنة تقريباً على ظهور الكون المرئي المادي ظهر أو شعاع للضوء، وبعد حوالي المليار سنة من تاريخ الانفجار العظيم أو الكبير تشكلت أولى النجوم. وقبل 6 مليار سنة من تاريخنا المعاصر المحدد بميلاد المسيح، ولدت شمسنا كإحدى النجوم المتوسطة العادية والمبتذلة. وقبل حوالي 4.6 مليار سنة قبل الميلاد تكونت كرتنا الأرضية، وقبل 3.5 مليار سنة ظهرت بوادر الحياة الأولى على أرضنا بنمطها الخليوي، وتطورت الحياة وتعرضت الأرض إلى كوارث طبيعية، حيث اختفت الديناصورات قبل 65 مليون سنة، وبين 9 إلى 7 مليون سنة قبل الميلاد يعود تاريخ ظهور أسلافنا الأوائل من البشر البدائيين المنحدرين من أحد أجناس الغوريلا أو أحد أجناس الشمبانزي حسب سلسلة australopithegrave;que ligneacute;e أي البشر الأوائل في استراليا الذيت استخدموا النار والحجر، ومن ثم اكتشف الإنسان الـمنتصب Homo erctus النار وتمكن من السيطرة عليها والتحكم بها الـ Homo ergaster حوالي 500 ألف سنة قبل الميلاد وكانت بداية مرحلة الـعصر الحجري القديم paleacute;olithique في الخمسين ألف سنة 50000 التي سبقت الميلاد انتهى العصر الجليدي الأخير وفي العشرة آلاف سنة قبل الميلاد كانت بداية العصر الـنيوليتي neacute;olithique المختص بالعصر الحجري الأخير حيث حدث أول تحول في تنظيم المجتمع البشري من قبل الانسان الحديث Homo sapiens ثم أعقب ذلك طفرات تطورية إجتماعية واقتصادية وعلمية مهمة. فبدأت الكتابة في الحضارة السومرية التي تعتبر أولى الحضارات البشرية قبل حوالي 3000 قبل الميلاد وكانت بداية فلسفة المنطقة قبل 500 سنة قبل الميلاد عند الإغريق، وكذلك أولى مباديء الرياضيات ومجالات أخرى في طرق التفكير البشري. وبعد 1600 سنة من ولادة المسيح بدأ العلم التجريبي خطواته الأولى حيث حدثت الطفرة التطورية الثانية في المجتمع البشري. منذ ذلك التاريخ تجرأ الإنسان على التساؤل العلني عن أصله ومن أين جاء ولماذا، ومن أين جاء الكون المرئي الذي يعيش فيه ولماذا، ومن أين جاءت فكرة حتمية وجود الكون المرئي، وهي تساؤلات طرحت من قبل عقل بشري واعي وذكي قرر أن يسلك طريقاً آخر غير طريق الدين للبحث عن الإجابات ألا وهو طريق العلم والتجربة والملاحظة والمشاهدة والتدقيق والتجريب والبرهنة قبل الاعتقاد واليقين.
البشر عطشى للإجابات المقنعة التي تروي غليلهم لكنهم لايعرفون لماذا يطرحون مثل هذه الأسئلة التعجيزية التي تطوعت الأديان السماوية لتقديم إجابات ميتافيزيقية عنها اعتبرها البعض كافية ولديها ما يكفي من المصداقية لكي تقنعنا بصحتها وجدواها ولا حاجة لمناقشتها أو دحضها لأنها منزلة من السماء وتتمتع بالقدسية. وهكذا تحولت المساهمات الدينية إلى نصوص مقدسة لا يأتيها الباطل من أمام ولا من خلف وتحرم مناقشتها والشك أو الطعن فيها ويعاقب بالموت والعذاب المبين من يتجرأ على مخالفة ذلك وقد حملت الكنيسة الكاثوليكية لواء القمع والتنكيل اقتفت آثارها المؤسسات الدينية الأخرى اليهودية والإسلامية التي تكفلت بمهمة الدفاع عن قدسية النصوص ومنع التطاول عليها وذلك باستخدام القوة والعنف والقتل كوسائل ردع فعالة أغرقت البشرية في سبات عميق دام عدة قرون.
شدد الكثيرون على أطروحة الخلق، سواء الخلق الذاتي، أو الخلق الإلهي، ومنهم من قال بالخلق من العدم creacute;ation ex nihilo، وهو مفهوم غامض وعسير على الفهم والإستيعاب لأنه يعني أن هناك neacute;antquot; عدمquot; دون أن نعرف ماهيته، ومنه إنبثقت quot; كينونة ecirc;tre، إما بفعل قوة غامضة مجهولة أسماها البعض الله، أو بفعل قوانين كامنة في ذلك العدم تفاعلت وقامت بتنظيم أصل للكون وأدت إلى إنبثاق الوجود المادي الذي عرف فيما بعد بالكون المرئي بكل مكوناته، ولكن يحق للمتلقي أن يتساءل ما هي الآلية أو المعجزة التي مكنت العدم من أن quot; يخلق quot; كينونة quot; مادية موجودة بدأت بنقطة لامتناهية في الصغر ولامتناهية في الكثافة والكتلة والحرارة إلى زمكان لامتناهي في الكبر؟ تبارت الأساطير والخرافات والروايات الملحمية الغارقة في القدم، خاصة الدينية منها، لتقديم رؤاها الخاصة لهذا الحدث، أي عملية الخلق. أي أن هناك بداية حدثت في أعقاب شيء ما سبقها، ولكن هل هي هذه فعلاً هي البداية، إن كانت هناك بداية؟ سنبحث في ذلك بالتفصيل لاحقاً.
تحدث البعض عن quot; المسبب الأول cause premiegrave;re الذي لا يحتاج لمسبب يسبقه والذي أطلق عليه أفلاطون إسم الـ آرخيه arkhegrave; والذي يمكن أن نترجمه بـ quot; المبدأ principe، أو البداية commencement ولكن ما معنى السبب والمسبب عندما لم يكن الكون المرئي المادي موجوداً بعد؟ البعض الآخر يحدثنا أن الكون المرئي هو كناية عن تجلي مادي لتصميم ذكي dessein intelligent وهو تجسيد لخطط ربانية أو إلهية مسبقة أو معدة مسبقاً أعدها المهندس الأعظم super ingeacute;nieur، أو صممها إله يحب المعادلات الرياضية الأنيقة belle eacute;quations والتنظيم الدقيق reacute;glages fins، ولكن بأي عود كبريت أو قادح يمكن تحويل الصيغ الرياضية التجريدية formules matheacute;matiques abstraites كون مادي فيزيائي يخضع لها ولقوانينها؟
من هنا نشبت حرب شعواء وتنافس شرس بين العلم Science، وعلى وجه التحديد الكوزمولوجيا العلمية أو علم الكون cosmologie scientifique من جهة وكافة الأديان السماوية وغير السماوية، من جهة أخرى. ودخل الإيمان والاعتقاد الصرف في صراع مع المعرفة وكل واحد منهما يشحذ أسلحته ومبرراته وحججه ويستخدم ما لديه من سلطات لفرض أطروحته، وبعد قرون طويلة من المواجهات والصراعات الدامية استسلم الدين للعلم وصرح البابا جون بول الثاني عند استقباله للعالم البريطاني ستيفن هوكينغ Stephen Hawking قائلاً :quot; نحن متفقون ياسعادة العالم الفيزيائي والفلكي astrophysicien، إن ما بعد البيغ بانغ Big Bang الانفجار الكبير هو لكم وماقبله هو لناquot; ce qursquo;il y a apregrave;s le big bang crsquo;est pour vous ; et ce qursquo;il y a avant، crsquo;est pour nous، ومهما كانت حقيقة أو مصداقية ما دار في ذلك اللقاء بين الحبر الأعظم والعالم الفذ، إلا أنه يؤشر إلى السهولة التي تقزم فيها وتختزل المواقف والحجج والمبررات حيث يعتقد البعض أن بإمكان الدين أن يذهب إلى أبعد ما يمكن أن يصل إليه العلم، بينما يعتقد البعض الآخر أن بوسع العلم خطف شعلة الخلق من يد الدين والروايات الأسطورية والخرافية reacute;cits mythiques ووضعها في موضعها الصحيح بعد تصفيتها من الشوائب الخرافية ودعمها بالتجارب المختبرية والمعادلات الرياضية بغية استيعاب معناها ومغزاها.
تمكن العلماء من صياغة رواية الكون المرئي الكبيرة التي يعود الفصل الأول فيها إلى 13.7 مليار سنة وأحدثوا قطيعة شبه تامة مع كافة الصيغ الثيولوجية الدينية التقليدية التي تحدثت عن نفس الموضوع. وكان عنوان الرواية العلمية هوquot; الانفجار العظيم أو الكبير وركائزه الثلاثة وهي: تباعد المجرات، فكلما ازدادت سرعاتها ازدادت المسافات بينها، وكذلك فإن الكون المرئي في حالة تمدد وتوسع دائم، وهناك إشعاعات الخلفية الكونية المتحجرة الكهروموجية le rayonnement diffus cosmologique التي تنبأت بوجودها نظرية الانفجار الكبير واكتشفت سنة 1965 وخضعت للدراسة والتحليل والتدقيق، وأخيراً النسب التي أعطتها هذه النظرية للعناصر الكيميائية الخفيفة كالدوتيريوم والهليوم 3 والهليوم 4 والليثيوم 7 حيث جاءت متطابقة مع الحسابات التي أجريت فيما بعد عنها في الكون المرئي برمته. يتوقع بعض العلماء على نحو متفاءل جداً بأن العلم سيتمكن قريباً من معرفة أصل ومصدر كل شيء مادي موجود في الكون المرئي، خاصة مع تطور علم الرياضيات وأجهزة الحاسوب العملاقة وبرامج المحاكاة والتلسكوبات الفضائية المتطور جداً بفضل تطور العدسات وعلم البصريات. كل ما نعرفه اليوم يقع على الجانب الذي يعرف بماوراء جدار بلانك Mur de planck الذي هو أصغر حيز مكاني في الكون المرئي وأقرب شيء لنقطة الانفجار الكبير، ويعمل العلماء في ايامنا هذه على عبور هذا الجدار والذهاب إلى ما قبل جدار بلانك الذي مازال يعتبر العائق الأهم أمام النظريات الفيزيائية الحديثة، وازداد تفاؤل العلماء بعد اكتشاف بوزونات هيغز bosons de Higgs أو جسيمات الله في مصادم الجزئيات العملاق LHC التي أكدت صحة نظرية الانفجار الكبير خاصة فيما يتعلق بأصل ومصدر كتلة الجسيمات التي سنتحدث عنها بإسهاب لاحقاً عندما نتناول بالدرس فيزياء الجسيمات الأولية بلغة الرياضيات. ولقد صدق غاليلو في مقولته الشهيرة عندما قال:quot; يمكن قراءة سفر الطبيعة العظيم فقط من قبل أولئك الذين يعرفون اللغة التي كتب فيها وهذه اللغة هي الرياضيات quot; وبعده بقرون صرح العالم جيمس جينز james jeans قائلاً يبدو العالم وكأنه مصمم من قبل عالم متخصص بالرياضيات البحتة.
يتبع
- آخر تحديث :
التعليقات