بعد خروج صدام حسين وجيشه بهزيمة منكرة في حرب تحرير الكويت ربيع عام 1991،واجه نظامه إنتفاضة شعبية إنطلقت من البصرة لتجتاح 15 محافظة عراقية بما فيها محافظات كردستان. وكادت تلك الإنتفاضة الجماهيرية أن تطيح بحكم البعث الفاشي، لولا سكوت أمريكا ودول التحالف الغربي المشين عن ردة فعل ذلك النظام القمعي الذي أرسل ما تبقى من قوات الحرس الجمهوري ليستعيد سيطرته على المحافظات المنتفضة بضمنها محافظات كردستان. ولكن بنتيجة الأحداث اللاحقة وهروب أكثر من مليون مواطن كردي من منازلهم الى الحدود التركية والإيرانية فرارا من بطش قوات الحرس الجمهوري، وصور معاناة الأطفال والنساء والشيوخ في تلك الفترة،من حيث البرد القارس وموت العشرات منهم على قارعة الطريق،والتي نقلت مشاهدها وسائل الإعلام الدولية فيما عرفت بـquot;محنة الأكرادquot;،إهتز الضمير العالمي، وتحركت فرنسا وبريطانيا لإستصدار قرار من مجلس الأمن الدولي بدعم أمريكي لإقامة المنطقة الآمنة في كردستان،وحظر الطيران العراقي فوق شمال خط العرض 36. فعاد الأكراد الى مناطقهم ومدنهم رويدا رويدا،وأرغم النظام البعثي القاتل على خوض جولة جديدة من المفاوضات مع القيادة الكردية إنتهت كالعادة بالفشل..

في كل المفاوضات التي خاضتها القيادة الكردية مع الحكومات المركزية المتعاقبة عندما تفشل تلك المفاوضات يعود القتال الى كردستان،ولكن هذه المرة كان النظام البعثي عاجزا عن إرسال قواته مرة أخرى لإحتلال كردستان وإعادتها قسرا تحت الحكم المركزي بسبب ظروف التعاطف الدولي مع الأكراد وخوفا من القرار الدولي،ولعدم قدرته على حرب البيشمركة في ظل فقدان الإسناد الجوي، وهذا ما يبدو رئيس الوزراء العراقي الحالي نوري المالكي يفتقده أيضا،وأقصد الإسناد الجوي، ولذلك يتريث حاليا من شن هجومه المرتقب على كردستان، كما قال مخاطبا بعض قادته العسكريين في إجتماع قبل عدة أشهرquot; لا تستعجلوا، ما أن نستلم طائرات الأف 16 حتى نبدأ خطتنا الهجومية وسنحتل مقر رئاسة الإقليم بمصيف صلاح الدينquot;!.

ويبدو أن السيد المالكي يريد إستكمال ما بدأه سلفه المعدوم صدام حسين بمحاولة اعادة إحتلال مصيف صلاح الدين،لكنه نسي وهو كان أحد قادة المعارضة في عهد صدام، كيف أن مفرزة واحدة من البيشمركة لا يتجاوز عدد أفرادها سرية عسكرية بالجيش العراقي،حررت هذا المصيف وغيره في غضون ساعات،في الثمانينات حين كان النظام الحاكم في بغداد يمتلك ترسانة عسكرية مخيفة، ويوصف بأنه أكبر رابع جيش في العالم، فيما كانت قوات البيشمركة الكردية لا تمتلك سوى بنادق الكلاشنكوف،فالمالكي نسي بأن الحرب تخاض بالرجال وبالإرادة والإصرار على النصر، وأن الأنظمة السابقة لم تتوان عن إستخدام كل أنواع الأسلحة الفتاكة بما فيها المحرمة دوليا إبتداءا من قنابل النابالم الحارقة الى القنابل الفسفورية وأخيرا الغازات السامة، لكنها عجزت عن قهر الإرادة الكردية. هذه الكلمات أسوقها للتذكير فقط،وتحديدا لتذكير السيد المالكي الذي أخذه الغرور حدا أن يصدق أنه الفرعون والطاغية الجديد للعراق.

ولست بمعرض التوسع في هذه التحذيرات لأن المالكي أدرى بقوة وقدرة الأكراد وتمرسهم في الدفاع عن أنفسهم،ولكني ٍاركز بهذا المقال على نقطة أخرى قد يكون السيد المالكي والمقربين منه والدائرين بفلكه قد نسوها أو تناسوها بلحظة طيشهم وغرورهم.

في شهر تشرين الأول من عام 1991 عندما لم يجد الرئيس العراقي صدام حسين أي فرصة أمامه لإعادة سيطرته على محافظات كردستان، أصدر قرارا بسحب جميع إدارات الدولة من تلك المحافظات،وفرض حصارا إقتصاديا وإداريا وسياسيا شاملا على كردستان الى جانب الحصار الدولي القاسي المفروض على العراق كدولة مارقة بالمنطقة.

كان الحصار الداخلي أشد وطأة من الحصار الدولي، لأن كردستان في ذلك الوقت كانت تعتمد على المركز في تدبير معاشات الموظفين بدوائر الدولة، وكانت التجارة محصورة بتعاملات تجار كردستان مع بغداد وبقية محافظات العراق،فلم يكن هناك لا نفط ولا غاز، ولا علاقات مفتوحة مع دول الإقليم كما هو الحال الآن. لقد عانى الشعب الكردي في ذلك الوقت أشد المعاناة مع ذلك الحصار الداخلي، لم يجد المعلمون راتبا يسدون به رمق أطفالهم، فكنت ترى المئات منهم وهم صفوة المجتمع وبناته،وهم الذين كادوا أن يكونوا رسلا،يدفعون بعربات متجولة يبيعون الخضر أو الفواكه أو يعملون حمالين في الأسواق؟!. وأخذ موظفو الحكومة يبيعون أغراض بيوتهم من أجل شراء الدقيق والسكر والشاي، حتى أن بعضهم إضطر الى إقتلاع أنابيب المياه من تحت أرضيات منازلهم عسى أن تدبر لهم قيمة كيلوغرامات قليلة من الطحين. الأطفال عزفوا عن الدراسة بسبب إفتقاد الكتب المدرسية،وذهب الآلاف منهم يفترشون الشوارع للتكسب في ظروف بالغة القسوة.عاش الكرد في تلك الفترة أقسى ظروف حياتهم وأشدها وطأة، ولكنهم رفضوا التفريط بكرامتهم وعزة أنفسهم والرضوخ لسلطة الفاشية الحاكمة ببغداد. وببطون خاوية وبيوت فارغة من أساسيات الحياة توجهوا الى صناديق الإقتراع لأول مرة في تاريخهم لينتخبوا برلمانا حرا،تمخض عنه تشكيل أول حكومة مستقلة في تاريخهم.

بموارد ضئيلة جاءت من الضرائب الجمركية إستطاعت تلك الحكومة أن تدبر بعض الحاجات الأساسية للمواطن الكردي، فأطلقت صرف رواتب الموظفين والمعلمين بعد أن قضوا سنوات يعملون تطوعا بمدارسهم ودوائرهم، وساعدهم تنفيذ مذكرة التفاهم الموقعة بين العراق والأمم المتحدة بالحصول على جزء بسيط من أرزاقهم فيما عرف ببرنامج النفط مقابل الغذاء.

في ظل هذه الظروف القاسية إستمر الأكراد في كردستان بتدشين تجربة ديمقراطية وإن كانت محدودة في بدايتها، ولكن أقصى آمال الكرد في ذلك الحين كانت التحرر من قبضة الدكتاتورية الصدامية.وإستمر هذا الوضع الى عام 2003 عندما أعلنت أمريكا الحرب لإسقاط النظام الصدامي،وكان الكرد لهم دورهم في التحضير لتلك العملية والمشاركة فيها أيضا، خاصة وأن الأحزاب الكردية كانت هي المعارضة الوحيدة مع عدد من الأحزاب الشيعية الفاعلة على ساحة المعارضة، وأفاد دور المعارضة في تلك الفترة خطط التحالف الدولي لإسقاط نظام صدام حسين.وبذلك فإن جزءا من فضائل سقوط نظام صدام يعود الى القادة الكرد وأحزابهم.

عاشت كردستان خلال السنوات من 1991-2003 في إقليم مستقل تماما عن بغداد، وكانت بمثابة دولة مستقلة،لأنه لم تكن هناك أية علاقة أو إرتباط أو مصلحة تربطها بالحكومة المركزية، وفي تلك السنوات نشأ جيل جديد من الشباب الكردي الذي لم يكن يعرف لا اللغة العربية ولاتعرف بالثقافة العربية،ولم يخدم يوما بأي دائرة أو وظيفة حكومية بالمركز،وتنامت لديه مشاعر الإعتزاز بقوميته وبحقه في أن تكون له دولة مستقلة على غرار جميع شعوب العالم. وبينت إستبيانات وإستطلاعات أجريت في بداية الألفية الجديدة أن هناك إجماعا كرديا نحو تأسيس الدولة القومية المستقلة، ولكن القيادات الكردية رأت بأن الظروف الدولية ليست مهيئة في ذلك الوقت لإعلان الإنفصال عن العراق فتأجل الموضوع ولو الى حين.

مع سقوط النظام الصدامي،وفي وقت إنتعشت فيه آمال الشعب الكردي بإنشاء دولته المستقلة،سارعت القيادات الكردية الى الذهاب بغداد رغم كل الظروف التي تحدثنا عنها آنفا، أراد هؤلاء القادة أن يثبتوا عراقيتهم وتمسكهم بوحدة بلدهم متحدين بذلك حتى المشاعر القومية للنسبة الأكبر من شعبهم.

دخلوا معترك العمل النضالي هذه المرة من أجل إعادة بناء العراق وإنهاضه من جديد، وكما بين الرئيس مسعود بارزاني في تصريحاته الأخيرة،أدركت القيادة الكردية مبكرا المخاطر التي تهدد العراق بعد سقوط النظام وإنهيار الجيش العراقي،ومع قدوم الجماعات الإرهابية الى العراق وتدفقهم من معظم الدول العربية والإسلامية، تعززت تلك المخاوف فبادرنا بالعمل من أجل إعادة بناء الجيش العراقي. وكما قال بارزاني، خاض الأكراد في هذه المسألة في وقت لم يجرؤ فيه أي من قادة الشيعة والسنة الجدد في العراق من دخول هذا المعترك، ولكن الأكراد أصروا على إعادة بناء الجيش، والمفارقة الكبرى في هذا المجال أن الجيش الذي تم إعادة بنائه على يد الأكراد لا يتمثل فيه الكرد اليوم سوى بنسبة ضئيلة جدا لا تتجاوز حسب قادة عسكريين أكراد 4% من مجمل التشكيلات والمراتب والضباط بالجيش العراقي؟!...

بموازاة ذلك شارك القادة الكرد في صياغة دستور البلاد والذي دشن للعملية الديمقراطية لأول مرة في العراق،وهي العملية التي ساعدت على وصول العديد من الأحزاب الهامشية والكارتونية في العراق الى السلطة، وكذلك سهلت وصول بعض الوجوه غير المعروفة من قادة معارضة الفنادق بأوروبا الى الواجهة السياسية في المشهد العراقي الحالي.

منذ ذلك الحين عمل القادة الكرد على إدارة شؤون البلاد متحملين مسؤولياتهم التاريخية بكل جدارة،ولم يتشاركوا في الصراعات الطائفية والمواجهات الدامية التي وقعت بين الأطراف العراقية المتصارعة، وحافظوا على حيادهم وبذلوا جهودا كبيرة طوال السنوات التسع الماضية من أجل تقريب الأطراف المتصارعة، وكان دورهم دائما توفيقيا وداعيا للسلام والمحبة، فماذا كان جزائهم؟؟؟. إن أقل ما يوصف به الدور الكردي في بناء العراق وعمليته الديمقراطية هو quot; جزاء سنمارquot;!. فما أن إستقوى بعض أطراف العملية السياسية في العراق حتى قلبوا ظهر المجن على الكرد، بل أنهم باتوا يهددون حتى وجوده كشعب له حق الحياة في هذا العراق.

لقد نسي السيد نوري المالكي ومن يلفون لفه،بأن الكرد قبل عام 2003 كانوا يتمتعون بإستقلاليتهم التامة كدولة،وأن حرصهم على بقاء العراق موحدا هو الذي دفعهم الى الذهاب لبغداد والمشاركة بالعملية السياسية،ولو كان لدى المالكي والمحيطين به ذرة من العقل والمنطق، لعرف قبل غيره بأن كردستان بما تمتلكها اليوم من ثروات مكتشفة ومن مؤسسات الدولة المحترمة ومن الجامعات والقدرات الشبابية والطاقات الإبداعية في شتى مجالات العلوم والمعرفة،أنها بإمكانها أن تدير نفسها بنفسها دون أية حاجة أو منة أو صدقة من أحد حتى وإن كانت بمستوى الدولة العراقية.

أتذكر بهذه المناسبة قولا لأحد القادة السياسيين الكرد في جلسة خاصة عندما قال ليquot; أن قيادتنا ترتكب خطيئة كبرى بذهابها الى بغداد، فهذا العراق يعاني منذ 14 قرنا من صراع طائفي بغيض،ومن صدامات دينية وعرقية لا تنتهي، وأن هذا البلد منذ أكثر من خمسين عاما أبتلي بحكومات دكتاتورية، فلماذا لا تتخلى قيادتنا عن مشاكل هذا البلد، وتتفرغ لبناء كردستانها المستقل،لماذا يتسارع القادة الكرد الى بغداد للتدخل في معالجة أي مشكلة أو أزمة سياسية تحدثها الأطراف العراقية،ولا تدخر جهودها لدعم العملية الديمقراطية في كردستان، وتتخلص من هذا العبء الثقيل عن كاهلهم وكواهلنا؟!.لقد كان القادة الكرد هم مؤسسي الدولة العراقية الحديثة،ويفترض أن يحترموا ويقدروا على هذا الدور البناء،لا أن تجزيهم الدولة جزاء سنمار.

السؤال الأخير موجه للسيد نوري المالكي رئيس وزراء العراق، هل كنت تدري بهذه الحقائق أم كنت بحاجة الى تذكيرك بها، فإذا كنت لا تدري فتلك مصيبة، وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم يا مالكي..

[email protected]