سبق ان اشرنا في مقابلة على احدى القنوات الفضائية في عام 2009، الى ان الخطر الكامن المستقبلي في العراق يتجسد بطبيعة ومضمون العلاقة العربية الكردية، وان مسالة الصدام بين الطرفين هي ليست سوى مسالة وقت، وعدنا للتاكيد عليها في دراسة موسعة نشرها مركز الجزيرة للدراسات حول التحديات المقبلة للعراق.

لكن المشكلة ان لاحد يستمع، والساسة لايستمعون سوى لانفسهم، والادهى من ذلك ان معظمهم لايرى سوى ظله، دون ان يمتلكوا اية رؤية استراتيجية او سياسية حقيقية، ويعتقدون ان السياسة ليست الا اجتهادا شخصيا تفرضه اللحظة، ومن هنا جاءت الاشكالات والخيبة من هؤلاء الساسة، لان توقعات الجمهور الذي انتخبها كانت اكبر مما يستطيعون تحقيقه، والوعود التي تم طرحها من قبلهم بابتذال وباسفاف، الى درجة الاستهانة بالجمهور والتلاعب بعواطفه ومشاعره لم تجد تطبيقا على ارض الواقع، فكان العنوان الابرز للمنتج السياسي على الصعيد الداخلي احتقانا سياسيا، وفسادا صارخا الى حد الاشمئزاز، وانسداد افق الحل للمشكلات القائمة بين الاطراف، فضلا عن فشل على نحو كبير في ادارة ملفات السياسة الخارجية.

وبالعودة الى ملف الازمة، فان دوافعها متعددة، فرئيس الوزراء نوري المالكي له اهداف عدة من وراء التصعيد من الاكراد، الاول شق وحدة صف العراقية واضعاف موقفها امام جمهورها، نظرا للعلاقة الجيدة التي سادت في الاونة الاخيرة بين الاكراد والقائمة العراقية، ناهيك عن كسب ود العرب في تخوم مناطق الصدام في كركوك والموصل وديالى، والثاني ان الاستحقاقات الانتخابية قد اقترب موعدها، وبالتالي فان تصعيد الازمة مع الاكراد سيجعل من رئيس الوزراء في المحافظات العربية شخصية قوية وقادرة على مواجهة مطالب الاكراد، بما يخدم ويعزز موقفه الانتخابي تجاه الاطراف الاخرى، ويدفع بعضها نحو التحالف معه، الثالث ان التصعيد مع الاكراد سيشغل الراي العام وحتى الاطراف السياسية عن ملفات الفساد التي طالت شخصيات نافذة من الحكومة، بحيث بات الاسثناء هو النزاهة والفساد هو القاعدة، ولاشك ان التصعيد هو احد الادوات للتعمية عن ملفات الفساد والتعويل على الزمن في طيها ونسيانها كباقي الملفات الاخرى.

من جهة اخرى، فان للقادة الكرد دوافعهم في تصعيد الازمة، اولا احراج المالكي واظهاره بانه رجل ازمات وليس رجلا حلول، ثانيا ابراز وترسيخ شخصية البارزاني بانه القائد الكردي الوحيد القادر على مجابهة المركز، تحسبا لاية متغيرات تظهر نتيجة غياب الطالباني، وظهور قوى صاعدة كquot;كوران والتيار الاسلاميquot;، التخلص من تبعة المشاكل الدخلية من خلال ايجاد عدو خارج المركز.
بيد ان هناك محددات لهذا الصراع، فهذا التصعيد لن يتحول الى صراع عسكري مباشر او اندلاع للحرب، وربما نشهد احتكاكات وعمليات محدودة جدا على ابعد احتمال ممكن، لان كلا الطرفين لايرغب الدخول في صراع فعلي، فالاكراد لديهم الان ما يخشون عليه فعلا، من بنية تحتية ونهوض على كافة الصعد، وبالتالي فان الثمن غالِ جدا، وانه لا المكان ولا الزمان مناسبان تماما لهكذا نزاع، اما المالكي فهو لايريد ان يخسر الاكراد على نحو نهائي لانه يدرك تماما انه إذا اراد منصب رئيس الوزراء لولاية اخرى فعليه عدم خسارة الاكراد بشكل نهائي، وبالتالي فان هذه الموازنات تلعب دورا كبيرا في عدم تحول هذا الخلاف الى صراع دموي، ومن هنا يسهل علينا فهم قبول الطرفين للتهدئة.

صفوة القول ان ما يجري اليوم هو نوع من اللعب السياسية (political games) ضمن اطار من الخلاف المسيطر عليه، وانه ينبغي له او هكذا يتم ادراكه من كلا الطرفين انه لايخرج عن المألوف ولايتعدى حدوده خارج السيطرة، ويبقى ضمن محاولات لي اذرع و فرض ارادت واقتناص الفرص ولن تخرج المسالة عن هذه اللعبة، ومن يعتقد خلاف ذلك عليه ان يقرأ مابين السطور جيدا.