العراقيون يعرفون جيدا أن صدام حسين لم يكن متدينا ابدا، ويشهد على ذلك ما أَطلق عليه هو نفسه بـ(الصحوة الدينية) بعد فشله فى حروبه مع ايران والكويت، وهذا هو شأن الخاسرين فهم كالبعير لا يذكر ربه الا بعد سقوط المطر خشية الزلق. ففى بداية الحرب على ايران اراد صدام ان يحارب الخمينى بسلاحه: الدين. فبدأت تظهر صور صدام وهو يصلى او يزور العتبات المقدسة، وحتى عندما قُدّم للمحاكمة حرص على أن يحمل القرآن تحت ابطه الأيسر الذى يقابل الكاميرات التلفزيونية، ولم يكف عن التظاهر بالتدين حتى عندما وضعوا حبل المشنقة حول عنقه وبدأ يتشهد. واحتج اتباعه ومريدوه على اعدامه فى اول أيام العيد، وكأنه لم يكن يقتل العراقيين بدون تمييز فى كل زمان وحتى فى الأشهر الحرم. ومما يحز فى النفس أن فوجا من الجيش السوري الحر قد أطلق على نفسه اسم صدام لولا ان تداركت الكويت الأمر وطلبت منهم تغيير الاسم ففعلوا خوفا من انقطاع المعونات الكويتية عنهم.

وحاول المندسون فى الجيش السوري الحر ان يظهروا الثورة على انها طائفية وانها قامت لإزاحة حكم العلويين الذين يعتبرون انفسهم طائفة شيعية وهم ليسو كذلك، فان الشيعة الاثني عشرية (أتباع الإمام جعفر الصادق) يعتبرونهم خارجين عن الاسلام، الى ان اقتضت مصالح ايران السياسية فقالوا بإسلامية المذهب العلوي. وقبل أسابيع قام بعض المندسين على الثورة بمحاولة نسف مرقد السيدة زينب حفيدة الرسول، فأصابوه ببعض الأضرار بالرغم من الحراسة المشددة عليه من قبل الجيش السوري النظامي وبعض المليشيات الشيعية. واذا ما حاولوا مرة أخرى ونجحوا فستكون نتيجة ذلك قتالا طائفيا أهوج يشبه ما حصل فى العراق بعد تفجيرات سامراء عام 2006 حينما نشب قتال شديد بين السنة والشيعة استمر أكثر من عامين راح ضحيته المئات من المواطنين من الطائفتين. إن أعداء الشعب السوري وثورته هم الذين يدّعون أن الثورة قامت لتنحية العلويين عن الحكم، بينما الحقيقة انها قامت لتنحية البعثيين عن الحكم، فالحكومة البعثية السورية لا فرق بينها وبين الحكومة البعثية العراقية التى كانت تضم عدة مذاهب وقوميات يجمعهم حزب البعث العلماني الذى اسسه ميشيل عفلق السوري، وحكم البلدين فى غفلة من الزمن.

عندما قُضي على الحكم البعثي فى العراق فى نيسان/ابريل 2003 توارد على العراق ألوف المجرمين المسلحين من مختلف الدول العربية والاسلامية، ودخل معظمهم عن طريق سورية البعثية حيث أقيمت لهم معسكرات التدريب وزودوهم بالأسلحة والمتفجرات، ودخل معهم البهائم الانتحاريون الذين فجروا أجسامهم النتنة فى الأسواق وتجمعات العمال والجوامع والمدارس والكليات والمستشفيات، واستهدفوا مراقد أئمة الشيعة لاثارتهم على السنة، ففجروا مرقدى الامامين على الهادي والحسن العسكري فى سامراء التى كان أهل سامراء السنة احرص عليها من الشيعة انفسهم فهم يعتبرون انفسهم من احفاد الامامين، بالاضافة الى الموارد المالية التى كانوا يجنونها من الزوار الذين يردونها من جميع انحاء العالم. ولكن وياللأسف فقد صدّق بعض الجهلاء من الشيعة أن سنة سامراء هم من قاموا بالتفجيرات، فشنوا غارات آثمة على الجوامع السنية بالرغم من بيانات المرجعية فى النجف وكبار رجال الدين من الطائفتين للكف عن ذلك، وسقط المئات من الضحايا من الطرفين نتيجة للتعصب الأعمى والدسّ الخارجي فدُمرت عشرات المساجد، فكانت تلك الأعمال الاجرامية لطخة سوداء فى تأريخ العراق الحديث.

لقد أصبح واضحا الآن ان اندساس القاعدة والمتأسلمين قد تسبب فى ان يقطع الغرب مساعداته للثوار السوريين التى لا غنى لهم عنها، وتسبب كذلك فى تردد بعض الدول العربية مثل العراق والجزائر ولبنان والسودان. ففى 30 ايلول/سبتمبر 2012 دعا وزير الخارجية العراقي هوشيار زيباري المعارضة والحكومة السورية الى عقد مؤتمر في دولة محايدة للبدء بعملية الانتقال السياسي ضمن أطر زمنية محددة، وطالب المبعوث الدولي الأخضر الإبراهيمي بالإسراع في طرح خطة عمل على الارض وعدم الاكتفاء بسماع الآراء، ولفت الى انه quot;تحفظنا أكثر من مرة على الموقف العربي، فنحن مع مصلحة العراق ولسنا مع مصلحة إيران أو سورية او امريكا او روسيا، وننطلق من هناquot;، معتبرا انه quot;ليس هناك اي ازدواجية فى موقفنا، وكنا واقعيين من اول يوم،ونبها كل اخوتنا وزملائنا العرب الذين كانوا يحاولون ايجاد تغطية عربية من خلال هذه القرارات للتشجيع على تدخل دولي فى سوريةquot;.

لقد أثبتت الوقائع بصحة موقف العراق بعدم إرسال السلاح لأي من الطرفين لأن ذلك كان سيزيد فى تعاسة الشعب السوري، وتتحول الثورة الى حرب استنزاف طويلة المدى فتزهق الارواح وتدمر الممتلكات العامة والخاصة، وستحتاج سورية الى عقود طويلة لإعادة بناء البلد. قد تتم إعادة بناء ما خُرِّب ولكن لن يعود القتلى، ولن تنموا الأطراف المبتورة.

العراق غارق بمشاكله الداخلية والخارجية، ففى الداخل يمهد الأكراد لإعلان دولتهم متى ما أتيحت لهم الفرصة، فتجدهم يتقربون الى القائمة العراقية لا محبة بقادتها ولكن نكاية بالمالكي وإضعافا لحكومته، ويتقربون من مقتدى الصدر لنفس الأسباب، والرئيس الطالباني يتصرف حاليا وكأنه رئيس دولة كردستان وليس رئيسا لكل العراق. الدكتور علاوي رئيس الكتلة العراقية يحاول جاهدا إبعاد الصدر عن الكتلة الوطنية لاضعافها ومن ثم الاجهاز عليها، ويوجه شتى التهم لرئيس الوزراء، وآخرها انه يحمّل الطائرات الايرانية بالاسلحة فى بغداد بحجة تفتيشها لتزويد طاغية الشام بها، ويبذل المستحيل لدق اسفين بين حكومة المالكى والولايات المتحدة، ويعود اليه والى صاحبيه طارق الهاشمي والبارزاني فضل تسميم العلاقات بين العراق وتركيا.

مقتدى الصدر، الطفل الكبير، يملأ الدنيا ضجيجا، فتراه يوما يهدد أمريكا ويوما يهدد المالكي، وهو نفسه لا يعرف ماذا يريد وكيف يتصرف، ونوابه الأربعون خائفون أن يفقدوا فى الانتخابات المقبلة كراسيهم فى مجلس النواب الذى نادرا ما يتم نصابه بسبب غيابات الأعضاء عن حضور الجلسات التى ليست لهم فيها منافع شخصية. ايران تدافع عن مصالحها فى العراق وتدعى انها تدافع عن شيعته، وتركيا تفعل الشيء نفسه وتدعى انها تدافع عن سنة العراق، يشجعهما فى التدخل النزاعات المستمرة المدمرة بين رجال السياسة والدين فى العراق. ودب اليأس الى نفوس العراقيين الحائرين ولم تعد لهم ثقة بأي من الأطراف المتنازعة، وهم اليوم يلعنونهم جميعا ويتساءلون : أما لهذا الليل من آخر؟