يبدو أن قدر المصريين هو أن يدفعوا ثمن هدنة غزة من حرياتهم وحقوقهم ودمائهم. فالمجتمع الدولي، الذي كان يتلهف للهدنة بين إسرائيل وحركة حماس، منح جماعة الإخوان المسلمين الضوء الأخضر للحصول على سلطات مطلقة وغير محدودة في إدارة شئون مصر. موافقة المجتمع الدولي جاءت كمكافأة للإخوان المسلمين على دورهم في إقناع رجالهم من إرهابيي حركة حماس بوقف إطلاق الصواريخ على إسرائيل. هذه هي قراءتي الأولى للأحداث في مصر بعد القرارات التي أعلنها ممثل المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين بمؤسسة الرئاسة المصرية بتعديل الإعلان الدستوري وعزل النائب العام. فلم يكن الإخوان ليجرؤوا على اتخاذ قرارات مصيرية وحاسمة كهذه من دون مباركة المجتمع الدولي. وقد كان الطعم الذي قدمه الإخوان للمجتمع الدولي هو الهدنة بين رجالهم في غزة والدولة العبرية.
العلاقة بين احتفال العالم بدور الإخوان المسلمين في إقرار الهدنة من جهة والتعدي على الإعلان الدستوري والجهاز القضائي من جهة أخرى واضحة كوضوح الشمس في منتصف نهار صيفي في العاصمة المصرية القاهرة. احتاج ممثل المرشد الإخوان لدى مؤسسة الرئاسة المصرية تطمينات دولية قبيل الإعلان عن تعدياته على الإعلان الدستوري، وحصل عليها بدور تمثيلي في إقرار الهدنة. فمن المعروف أن العلاقة بين إخوان مصر وحركة حماس هي علاقة الجماعة الام بالجماعات الفرعية، أي أن حركة حماس تمثل جماعة الإخوان في غزة، ومن ثم فلم تكن هناك جهود فعلية من قبل الإخوان لإقناع حماس بوقف العنف. الأمر كان بمثابة قرار أو فتوى من الجماعة لإلزام الحركة وليس أكثر.
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يقدم فيها الإخوان على مثل هذه الخطوة وبمباركة المجتمع الدولي وبخاصة الجانب الأمريكي. فقد فعلتها الجماعة من قبل، بمباركة وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون، حين أعلنت عن تعديلات الإخوان الأولى على الإعلان الدستوري وحين أعلنت عن عزل رموز المجلس العسكري في شهر أغسطس الماضي.
اليوم تكشف جماعة الإخوان ستاراً جديداً عن شخصيتها الحقيقية التي نجحت في إخفائها، عن عيون من لا يعون دروس التاريخ في، فترة المرحلة الإنتقالية التي تلت الخامس والعشرين من يناير. تكشف الجماعة عن صورتها الدكتاتورية التي لا تحترم الشرعية والديمقراطية والرأي الأخر. الطاغوت الإخواني ليس كالسابقين من الطواغيت التي حكمت مصر، ولكنه طاغوت من نوعية جديدة. ففي حين لم تكن للطواغيت السابقة أية أسس دينية أو أيديولوجية تساندها، فإن الطاغوت الجديد يقوم على أسس دينية بحتة ويستمد قوته من quot;شرع اللهquot; الذي يحرم الخروج على ولي الأمر. الأمر هنا مختلف ومخيف لأن مواجهة جبروت الطواغيت السابقة تطلبت فقط شجاعة وصبر وتضحية. أما الطاغوت الذي نحن بصدده اليوم فهو مسألة دينية بحتة، ومواجهته تتطلب فتاوى تحللها، وهو الامر الذي يمكن أن يؤدي إلى تقسيم مصر إلى قسم إسلاموي متطرف يؤيد الإخوان وقسم مسلم مدني معتدل تؤيده الأقليات الدينية الأخرى.
انقلب الإخوان بتعديلاتهم الدستورية واعتدائهم على السلطة القضائية على كل التيارات المدنية المصرية سواء التي ساندتهم في معركة الرئاسة أو التي لم تساندهم ووقفت على الحياد. أذكر أن عدداً كبيراً من المدنيين الذين أيدوا ممثل المرشد العام في انتخابات الرئسة زعموا أن تغيير نظام إخواني حال انقلب على مكتسبات الثورة الديمقراطية سيكون أسهل كثيراً من الانقلاب على أي نظام دكتاتوري أخر. ترى هل يفكر هؤلاء بنفس الطريقة اليوم بعدما اعتدى الإخوان على كل أساس شرعي جاء بهم إلى السلطة؟ ترى هل يجرؤ هؤلاء اليوم على النزول إلى الشارع لعزل ممثل المرشد العام لدى مؤسسة الرئاسة؟
إن مصر اليوم تمر بمرحلة عصيبة من تاريخها. المستقبل يبدو داكناً لأن الإخوان لن يتركوا السلطة من دون دماء وحرب أهلية هم مستعدون لشنها إن استدعت الأمور. أما القوى المدنية فهي مأسوف عليها لأنها بشكل كبير ساهمت في إضفاء الشرعية على الجماعة المتطرفة حتى جاءت إلى السلطة وأعطتهم ظهرها. أخشى أن تخور قوى الحركات الوطنية بسهولة أمام جماعة الإخوان التي تفخر بالجهاد ولا تحترم الحياة وترحب بالموت على أنه استشهاد.
كم أتمنى أن يصلح المجتمع الدولي من خطئه بالاحتفال بما قيل أنه دور فعال لممثل المرشد العام لدى مؤسسة الرئاسة المصرية في إقرار هدنة غزة. على المجتمع الدولي أن يدرك أن السلام والهدنة ليست إلا تكتيكاً تستخدمه جماعة الإخوان المسلمين لابتزاز العالم. السلام مع إسرائيل واليهود ليس استراتيجية إخوانية على الإطلاق، الحرب وطرد اليهود من المنطقة هما الأساسان اللذان تقوم عليهما استراتيجية الإخوان. ولقد أكد ممثل المرشد العام لدى مؤسسة الرئاسة المصرية على هذا المفهوم حين قال قبل أيام قليلة بأن المستقبل القريب سيشهد نهاية أبدية لمعاناة فلسطينيي غزة. ويخطيء خطأً جسيماً من يظن أن ممثل المرشد كان يعني السلام الدائم بين الغزاويين والإسرائيليين، فما قصده هو أن الهدنة أمر مؤقت لأنه لم يحن الوقت لمواجهة إسرائيل التي ستمكنهم من محوها من خريطة العالم.
لقد أكد احتفال المجتمع الدولي المبالغ فيه بالدور الذي قيل أن ممثل المرشد العالم بمؤسسة الرئاسة المصرية لعبه أنه لا يفهم عقلية أو أيديولوجية الإخوان. وأرجو ألا يتعامى المجتمع الدولي عن المفاهيم الإخوانية للجهاد والخلافة والأممية الإسلامية. الإخوان لا يعترفون بإسرائيل ولن يفعلوا. الإخوان ينتظرون اللحظة المناسبة للانقضاض على إسرائيل، فهم يمتلكون من الذكاء ما يكفي لاتخاذ القرارات التكتيكية المناسبة لكل مرحلة، والقرار الأنسب لهذه المرحلة، في ظل عدم الاستعداد العسكري، هو الهدنة. أرجو أن يتصدى المجتمع الدولي للإخوان المسلمين قبل فوات الاوان وألا يبتلعوا طعم هدنة غزة التكتيكية، فثمن جهل المجتمع الدولي بحقيقة أيديولوجية الإخوان المتطرفة سيدفعه الأبرياء المصرييون من حرياتهم وحقوقهم ودمائهم.
- آخر تحديث :
التعليقات