=في الدول المتقدمة والأنظمة المتحضرة يتنافس الخبراء والمشرعين والمسؤولين من اجل اكتشاف أو تطوير أو ابتداع أكثر الوسائل والأساليب خدمة للأهالي، وفي كل مناحي الحياة، بما يلبي رغبات الأكثرية ويحترم دوما خيارات الأقلية، ولذلك ترى فيها منظومات متطورة للتكافل الاجتماعي، تكون فيها الدولة وأجهزتها خادمة لتلك الأنظمة بما يحقق حياة رغيدة وكرامة رفيعة مصانة لمواطنيها، لا تخضع للابتزاز أو المساومة أو استخدام تلك المنظومات لاستغلال المواطن سياسيا أو اقتصاديا، كما يحصل في كثير من بلداننا التي حاولت استنساخ بعض تلك المنظومات ولكن بتنفيذ شرقي استغلالي بشع، منذ وقوعها تحت حكم الأنظمة الشمولية، وهي تناضل من أجل تحويل الأهالي إلى قطيع صاغر جائع مستكين، تتحكم فيه كما تتحكم الذئاب في قطعان الماشية التي تفقد رعاتها، وخير ما أنتجته تلك الثقافة هو نجاحها المنقطع النظير في ربط كل الأهالي بمصدر تغذية واحد، يتحكم فيه الرئيس الأوحد والحزب القائد وليست المؤسسات كما يحصل في الدول المتقدمة، ويعرف الجميع العدد الهائل من مستوطنات الفساد في الجمعيات الاستهلاكية والتموينية في مصر وسوريا واليمن ومن شابههم وخاصة تجربتنا الرائدة في البطاقة التموينية وماهية النوعيات الرديئة من الأغذية وكمياتها التي توزع بشكل مخز على الأهالي، حيث أصبحت البطاقة التموينية ورقة جوكر بيد النظام العراقي السابق، يلعب فيها ويستغلها بشكل بشع ومرعب في تبعيث الأهالي والتهديد بقطعها عن أسر الأشخاص المعارضين سواء من كان منهم في العمل الثوري داخل العراق أو هاربا خارجه.

وطيلة سنوات مريرة من الحصار أصبحت هذه البطاقة ومفرداتها تغطي ما يقرب من نصف حاجة المواطن في الحد الأدنى للعيش في ظروف قاهرة وقاسية من ضغطين مزدوجين احدهما الطرف الاممي متمثلا بقرارات مجلس الأمن في الحصار، والثاني استغلال النظام لتلك البطاقة وتحويل الأهالي إلى قطيع جائع، وإشاعة الاتكالية والاستكانة والارتباط التام بالنظام ومقدراته حتى غدت البطاقة التموينية أكثر أهمية من شهادة الجنسية العراقية في كل تفاصيل الحياة والعلاقة بالوطن ومؤسساته!؟

بعد سقوط النظام كان هناك تصوران لمصير البطاقة التموينية أولهما أن يتم تطوير مفرداتها من الناحيتين النوعية والكمية، بل إن مخيلة القطيع أشاعت في حينها بان الوجبة ستكون ذهبية ومجانية أيضا، أما الخيار أو التصور الثاني فكان إلغائها لنفاذ الحاجة إليها ورفع الحصار وسقوط النظام، وللأسف الشديد لم يتحقق أي من التصورين بل على العكس تقهقرت مفردات البطاقة في الكم والنوع وانشطرت مستوطنات الفساد في هيئاتها ووزارتها بشكل اميبي أو فايروسي حتى أطاحت ولو بشكل كارتوني بوزير التجارة السابق وإدانته بالفساد والإفساد، إلا أن البطاقة راوحت في محلها حتى تمخض مجلس الوزراء عن قرار سطحي بائس بإلغاء البطاقة والاستعاضة عنها بما قيمته ثمن لفة فلافل يوميا للفرد العراقي، دون دراسة علمية واجتماعية واقتصادية تعتمد تأثيرات البطاقة وثقافتها طيلة ما يقرب من ربع قرن، وما ستؤول عنه الأحوال بعد إلغائها في بلد يعاني ربع سكانه من الفقر المدقع والبطالة والتضخم وفقدان السلم والأمن الاجتماعيين وتدهور الخدمات الحيوية إلى مستوى مريع، جعل توصيف الدولة العراقية بالفاشلة من أهم ما يميزها في العالم رغم ما تمتلكه من مئات المليارات التي أكسبت النظام السياسي صفة أخرى هي الأكثر فسادا في العالم!؟

إن إلغاء البطاقة ضروري جدا ولكن الأكثر أهمية هو أن يكون هناك بديل حضاري يحفظ حقوق شريحة الفقراء ومحدودي الدخل من الموظفين الصغار والعمال من خلال جمعيات تعاونية حقيقية مدعومة من قبل الدولة توفر كل ما يحتاجونه بأسعار ثابتة تتلاءم ومدخولاتهم، وتلك البدائل تحتاج إلى أرضية وظروف تعتمد أسسا إنتاجية واستثمارية ضخمة في البلاد، تقلص فيها مساحات البطالة والتضخم والفساد وتعمل من أجل اقتصاد ديناميكي أساسه الإنتاج المحلي لتأمين سبل العيش للفرد بما يحقق إبعاده عن الاتكالية والسلبية وتقليص البطالة والتحول من النمط الاستهلاكي إلى الإنتاجي وخاصة في الريف وحقول الزراعة التي تكاد أن تندثر وتدثر معها أنواع متعددة من الصناعة.

[email protected]