أيها الأب الفاضل ، ويا أيها الشاعر الراحل
بين الحين والحين كان الهام الشعر يراودك بشوق وحنين ، لتباغتني في كل وقفة تأملية بنداءاتك الهاتفية بغية أن تبعد وتدفع عنك الملل بإسترجاعك لذكريات الماضي الكركوكلية ، وصدى الشوق يدغدغ مخيلتك لتقف على المستجدات من أخبار الشاعرين سركون بولص وجان دمو.
وبعد رحيلهما كان يشدك الحنين والأنين لسرد مآثرهما وطيبتهما بلوعة وحسرة ، كونهما كانا من أعمدة من زاملوك في نشأة وتبني جماعة كركوك الأدبية. وكنتَ حقاً في كل مَرّة تنأى وتبتلع الحشرجة المُرّة لتعزف على أوتار عواطف قلبك الحان الحزن الدفين لذكريات الماضي من السنين. وها أنت اليوم ترفرف روحك وأياهم في جنات الخلد لتفاجئهم بقدومك حاملاً ذات الرسالة التي آمنتم بها جميعاَ.

أيها الأب الفاضل ، ويا أيها الشاعر الراحل
دعني هنا أخاطب روحك الطاهرة الزكية لأذكرك بأنه قبل رحيلك الأبدي بإيام قليلة تهاتفنا بالرغم من بحة الإجهاد التي انتابتك في يومها، فتحسستُ وتحسستَ أنت بأنك لا تقوى على اتمام حديثنا مثل ما كنتَ قد اعتدتَ عليه، لترجوني في هذه المَرّة بتنهيدة مُرّة وقاسية إثرَ حديث قصير شاكراً بطيبتك وصراحتك المألوفة على تأجيل الحديث لحين أن تتماثل بالشفاء العاجل. فهل كنتَ يا أبانا الفاضل على علم ودراية بأنك راحل عنا بهذه السرعة الخاطفة التي لم تمهلك طويلاً ؟! وهل كانت أصداء النواقيس التي الفتها تجلجل في أعماق ذاتك لتلبي مشيئة الرب على الإستسلام؟! يبدو أن الأمر كان كذلك ، لتكون كلماتك الأخيرة شارة وداع أبدي لا تغيب عن بالنا.

أيها الأب الفاضل ، ويا أيها الشاعر الراحل
نعم ، هكذا حكم الدهر. حكم الدهر بمشيئة الأحداث أن نلتحف ديار الغربة ، نتأسى رغماً عنا ، وفي الوقت ذاته يراودنا الحنين للماضي الأليم رغم مرارته ، ولتطأ أقدام كل واحد من عناصر حلقة الحداثة الأدبية مرافئ ومحطات متفاوتة ، حالها حال خرزات السُبْحَة المتقطعة والمتناثرة من خيطها هنا وهناك.
نعم ، وبالتالي هكذا شاء القدر ، أن تختطف يد المنون كل واحد في بقعة من أرض الإغتراب نائية عن بعضها وعلى التوالي ، بدءاً برحيل جان دمو في استراليا ، سركون بولص في امريكا ، أنور الغساني في كوستريكا ، وجليل القيسي في ارض ما بين النهرين وغيرهم... واليوم ها أنت يا أبانا الكريم تثويك ارض السويد، لتجمعكم آصرة الروح في عالم الخلود السرمدي.
نعم ، رحلت عنا لتترك لنا مآثرك وآمالك وآثارك من ابداعاتك الشعرية ولقاءاتك السمعية والمرئية لتنطبع في ذاكرتنا ولنحيي ذكراك دوماً كقديس للشعر مثلما قلت ذات مرة في لقاء اذاعي quot; احياناً احلم ان اكون مع الملائكة ، واحيانا أن اكون انساناً آخرquot;. فها أنت اليوم مع اولئك الملائكة الذين تأملتهم وتمنيت ملاقاتهم. ومنذ أن شَهَرَ يراعك بتألقك في مهرجان المربد الشعري وأنت تلفظ عبارات الموت في مطلع قصيدتك التي تقول فيها:
quot; ظلي يتكور فوق ضفاف الانهار
وموتي البطئ
لا يعرف اسرار مادة التحنيط
ولا جفاف المومياء quot;
وليس أكثر دلالة على مناجاتك للموت البطئ من تلك ايحاءات باكورة نتاجك الشعري الذي وسمته متوجاً بعنوان quot; الموت واللغة quot; متجاوزاً العقد الثالث من العمر لتعني بذلك بعد الرحيل لا نترك لأولادنا سوى اللغة.
حقاً لقد صدقت في قولك ، وقد وفيت بوعدك ، بما تركته لنا من درر المعاني كأب روحاني وشاعر رباني.
وهنا تحضرني تلك كلماتك التي صغتها من نفثات يراعتك الحزينة المُسَوّرة بالمجد يوم شاركتنا بتأبين سركون بمقولة : quot; وبموت سركون تدفن عبقرية انسان جاء ضيفاً ورحل له اجنحة مضيافة عبر سماوات جديدة quot;. لنستنتج منها حدسك الذهني بأنك مصدر عبقريته منذ تبنيك لنشأته الشعرية وتنبؤك بمستقبله الإبداعي.
يا أبانا الفاضل ، وهل لي أن انسى فضلك وتبجيلك يوم خاطبتني بتقدمة كلمتك التي قلت فيها : ( اهدي هذه الكلمة لزميلي الأديب ميخائيل ممو الذي حظي بحفل تكريمي من قبل اتحاد الأندية الآثورية في السويد ، تثمينا لجهوده في حقل الأدب والصحافة والعمل القومي وبشكل خاص في مجلة حويودو الغراء ). لتردد اسمي في كل فقرة في كلمتك بصفات متفاوتة ، اخترت منها هذا الجزء اليسير الذي تخاطبني فيه بقولك:
(ميخائيل ممو .. أكتبْ .. فالكتابة وسيفها البتار الوحيد الذي يفتح لنا أوداجها لندخل حاملين طيوباً لعذارى متكأءات على جدائل العريس القادم من جبال آثور ، حيث هناك بقايا نكهة مطعمة بالبيلسان والبخور ، وبقايا من روائح النرجس العراقي في سفوح جبال معطرة برياح ذات هلهلات رشيقة وسعيدة ، تكتب فاتحة لنفحة في خاصرة الكتابة ، وتروي قصصاً عن لوحات آثورية تفقس بهجة روعه روحها من القلم الأسيل. عد الينا حاملاً على صدرك نبراس سيف الكتابة الآشورية ، وأكتب لنا عن أشباح الروح ، تحيطها أرض الرعب المحنطة ، تجاور صحراء أرواحنا المشردة).
أجل يا أبانا.. ها أني أوعدك ، ومثلما يُقال وعد الحر دين ، ملبياً طلبك بالكتابة التي لم اكن أحبذها أن تكون على شكل مرثية حزينة مؤلمة تعصر الألباب وتبكي الأحباب.
وها أني أعود ثانية لأحمل على صدري الوسام الذي اهديته لي بالسريانية لأدبجه على صفحات فكري بقولك:
ܕܪܰܫ ܘܰܦܪܰܫ ܐܝܕ̈ܝܟ. ܘܠܐ ܬܐܚܘܪ ܥܠ ܣܪܝ݂ܩܘܬܐ ܕܐܪܝܐ. ܘܠܐ ܚܙܘܐ ܕܢܦܩ ܐܝܟ ܟܘܟܒܐ ܘܗܘ݂ ܘܒܓܘܢܗ ܐܘܟܡܐ ܗܘܐ. ܡܫܰܚ ܙܰܠܓܗ ܒܥܰܪܦܶܠܐ ܕܛܘ݂ܪܐ. ܘܣܕܪ ܬܫܥܝ݂ܬ݂ܗ ܥܠ ܩܪܩܦܬܐ ܕܝܠܗ ܕܗܘ݂ ܡܪܐ ܕܡܪ̈ܘܬ݂ܐ. ܕܰܫܚܰܛ ܕܓ̈ܠܬ݂ܐ ܡܢ ܟܶܪܟܶܗ. ܘܠܐ ܢܳܚܬܐ ܒܚܰܕ ܡܢ ܐܫܛܪ̈ܐ ܕܟܬ݂ܝܒ̈ܬ݂ܗ.ܘܝܳܩܶܕ ܘܩܳܡܶܨ ܠܕܓܠܘܬ݂ܐ ܕܢܳܦܚܐ ܘܢܒܗܐ. ܒܟܬܒ̈ܐ ܕܒܝܬ݂ ܐܝܣܪܐܝܠ. ܗܘ ܟܪܘ݂ܟ݂ܝܐ ܕܢܫܪ̈ܐ ܕܕܳܥܪܝ݂ܢ ܠܒܝܬܐ ܕܦܳܬܰܚ ܟܘ̈ܐ ܒܫܩܝ݂̈ܦܬ݂ܐ ܕܛܘܪ̈ܐ. ܘܦܬܚ ܡܢ ܚܕܝܐ ܕܛܘܪ̈ܐ ܢܗܪ̈ܘܬ݂ܐ ܕܚܠܡ̈ܐ. ܝܘܣܦ ܣܥܝ݂ܕ

لم يبق لنا في نهاية مرثيتنا سوى مناجاتنا لروحك إلا أن نقول: إن رَزْأنا برحيلك الأبدي جسيم ، وما علينا إلا أن نتضرع الى الباري العليم أن يتغمد روحك الطاهرة شآبيب رحمته ويلهم ذويك الصبر والسلوان.

[email protected]