على جداري في الفيس بوك نشر صديق صورة مؤلمة لجانب من الاعمال الارهابية الدموية التي طالت العراقيين امس. عدت متعبا فصدمتني الصورة، و في صباح اليوم التالي كتبت اعاتبه. قبلها لمح كاتب في ايلاف الى انني لم استنكر ابدا الاعمال الارهابية.

في سبعينات القرن الماضي اضطررت للاختفاء بعدما صدر عليّ امر بالقاء القبض بسبب انتمائي لحزب يساري. و لثلاث سنوات و نيف كان ناظم كزار يبحث عنا كل زاوية، رغم ذلك كنا نلتقي و نمزح. كان الحزب يزودنا بنشرات الاخبار و حملات التضامن و الاستنكار التي تندد بالحملة ضدنا.

في أحد الايام قال لي ابو صوفيا الذي ا ستشهد على يد الجلادين لاحقا: quot;اتعرف يا منير ما هي حملة الاستنكار و التنديد؟ ثم بطريقته الساخرة و دون ان ينتظر مني ردا، اجاب هو بنفسه على السؤال: quot;فتىً و فتاة من الشباب الاوربي يرسمون زركية (وهي الحمامة الصغيرة المائل لونها للزرقة) ثم يذهبون ليشربوا البيرة و يتبادلوا القبل في اقرب مقهى دون أن يعرفوا من نحن و اين يقع العراق وماذا سيكون مصيرنا..quot;.

بعدها قتل الجلادون ابا صوفيا بعد أن القوا القبض عليه و عذبوه تعذيبا شديدا، اما انا فقد افلت منهم حتى قيام الجبهة سيئة الصيت. بعدها بثمان سنوات و بعد انفراط عقد الجبهة امسكوا بي و عذبوني تعذيبا شديدا حتى شارفت على الموت ثم افرجوا عني بما يشبه الاعجوبة.

حين هاجمني رجال الامن الذين امسكوا بي حملوني الى المدير الذي امر بتفتيشي. كانت في جيبي نشرات اخبار مكتوبة باليد على ورق التريس الرقيق تتضمن العشرات من حملات الاحتجاج على الحملة ضدنا و التضامن معنا.. بسط مدير الامن الوريقات الملفوفة بعناية وقال ساخرا هل تظن ان هذه تنفع؟.. تذكرت حينها ابا صوفيا.

ثقافة الاحتجاج السلبي هي حلقة من مكونات ثقافة قادة اليسار العراقي المركبة و الجديرة بالتحليل، تهدف الى امتصاص النقمة التي تسود قواعد الحزب و اوساط الشباب المتحمس من المطالبين بوضع حد لدورات متكررة من حملات التصفية التي بدت كأنما هي قدر لا مفر منه، تهدف الى تخدير المحتجين و امتصاص نقمتهم. الاحتجاج الحقيقي، الاحتجاج الايجابي هو ذلك الذي يحدد نقطة انطلاق لفعل ما لاحق.

رُحلت ثقافة الاحتجاج الى وضع اليوم و كُيفت مع متطلباته و بدا المقال المندد السطحي المكرر كما لو كان معدا قبل حدوث الاعمال الاهاربية.. فبعد كل عمل ارهابي بساعات قليلة يكون ثمة مقال جاهز للتنديد و الاستنكار يتضمن نفس العبارات التي وردت في الاستنكار السابق بنفس العبارات الانشائية التي تعلمناها حينما نصحنا مدرسون كلاسيكيون ان نقرأ المنفلوطي.

لا يطال التحديث الاشياء الايجابية فقط، فحتى الاشياء السلبية تكون خاضعة للتحديث دون أن تطال الجوهر فسياسة الانهزام و العجز هي نفسها وقد اضيفت عليها ملامح جديدة... لم يعد الشهيد، الضحية انسانا، بل لم يعد حتى مواطنا عراقيا، بل تناولت الاخبار الضحايا حسب طوائفهم و اعراقهم و قومياتهم فبات لدينا الشهيد الشيعي او السني او الكردي و بات علينا ان نقرأ تضامنا مع المسيحيين و مع الكرد الفيليين في ممارسة واسعة للتملق الفئوي الذي قام باقصاء مفهوم المواطنة ناهيك عن المفهوم الانساني للضحية، و كما اسست الاصولية الدينية لخطابها الذي يقول لا يجوز للمسلم ان يقتل المسلم (مما يعني جواز قتل غيره) باتت فئوية الضحايا تصريحا بجواز قتل الآخر.