كتبت هذه المقالة بعد زيارة للعراق
في يوم زيارة الإمام موسى الكاظم ولمناسبة إستشهاده، وفيما المتفجرات المجرمة تحصد أرواح الأبرياء في غياب السلطة السياسية، تبرز السلطة الدينية الإسلامية كبديل للسلطة السياسية. وهذه السلطة الدينية الإسلامية ليس لها مجلس وزراء ولا رئيس لأولئك الوزراء ولا رئيس جمهورية، بل أن لها مراجع دينية سنية وشيعية أو شيعية وسنية، ولها قوة مطلقة في السماء أصدرت لنا قوانين السماء التي لا تقبل الجدل، وتحت عناوين قوانينها سبكت الحكايات والأساطير والخرافات وعلى الناس قبولها تحت وعيد النار ووعد الجنة، فيما ينساب الرهبان والقساوسة بصمت يتلون النصيحة لأتباع المسيح في كنائسهم وسط مخاوف الموت والمتفجرات والمفخخات وخوفاً من أي تعصب ديني مفاجئ! وذلك بسبب عدم وجود سلطة راسخة وقوانين عادلة وقوة تحمي تلك القوانين مثل قوة جيش نظامي وطني ومؤسسات أمن وطنية.
السلطة الدينية الإسلامية المخيفة في الواقع العراقي تدعمها مؤسسات إعلام مرعبة تبث الجهل والتخلف في الحياة المعاصرة التي ترمي بالمواطن العراقي في متاهات التخلف على كافة الصعد الإنسانية.
وسط مسيرة زيارة الإمام الكاظم التي جاوزت الستة ملايين عراقي وقفت أمام بيتنا في مدينة السماوة وأنا أرى الناس تتدفق في شوارع مدينتي وفي درجة حرارة قاربت الخمسين درجة وسط الأرهاب الذي لا يتوقف وسادية من يقف وراءه وجريميته، لم أتمكن من متابعة المسيرة في الشارع وقررت مشاهدة المسيرة من خلال القناة العراقية التي تنقلها بشكل مباشر. والقناة تقدم لقاءات تتداخل مع نقل المسيرة، فشاهدت رجل الدين quot;...quot; يجلس في بيته مرتاحاً ولا يمشي مع المسيرة ويجلس أمامه مقدم البرنامج للقناة الفضائية العراقية بذقن مدوكر حيث أصبح الذقن الجديد المرسوم بخطين مائلين متصلين بالشارب هو الموديل الجديد بعد أن مللنا من الشاربين على شكل رقم quot;ثمانيةquot; المعبرين عن مجازر quot;ثمانيةquot; من شهر شباط عام 1963 وهو إشارة للبعث الحاكم. مقدم البرنامج ذو الذقن المدوكر المؤرخ في التاسع من نيسان عام 2003 في قناة تلفزيونية، والقناة التلفزيونية الفضائية هي نتاج العلم الحديث، والكاميرا التي تصور البرنامج هي نتاج تطور العلم في نهاية القرن التاسع عشر، جلس المذيع ليسأل رجل الدين الذي شغل حجم جسمه شاشة الفضائية العراقية من كادرها اليمين حتى كادرها اليسار وهو بدين تقترب بدانته من بدانة رئيس جمهورية العراق، جلس وهو يفكر محركاً عمامته تارة وطرف عباءته تارة أخرى متحدثاً عن القيم التي تركها لنا الإمام موسى الكاظم. يجيب رجل الدين على مقدم البرنامج صاحب الذقن المدوكر، بالحكاية التالية.
quot; كان الإمام موسى الكاظم سلام الله عليه يعيش في بيت بسيط في صوب الكرخ هناك عبر الجسر قريب من منطقة الشواكة سابقا quot;ويشير بيده إلى مكان تواجد بيت موسى الكاظمquot;. وكان الإمام واقفا أمام باب منزله حين خرجت أمرأة من دارها التي تقابل داره، وهي تحمل كيساً من الزبالة لترميها قرب البيت وتركت الباب مفتوحاً فسمع الإمام موسى الكاظم صوت موسيقى تنبعث من المنزل. فسأل المرأة هل إن صاحب الدار حر أم عبد، فتقول له أنه حر. فيعيد عليها السؤال هل أن صاحب الدار حر أم عبد فتؤكد له قائلة أنه حر. فأجابها أنه ليس حراً، بل هو عبد من عبيد الله سبحانه. المرأة كما يقول رجل الدين لا تعرف من هو هذا الشخص، فذهبت إلى زوجها الذي كان يسمع الموسيقى وروت له الحكاية فتأمل الرجل تلك الكلمات وعرف بأنه ليس حراً إنما هو عبد من عبيد الله، فتوقف عن سماع الموسيقى وتوجه لعبادة الله.
يجيبه المذيع بالصلاة على محمد وآل محمدquot;
يستنتج رجل الدين بأن الإمام موسى الكاظم بكلمات بسيطة تمكن من تحويل مسار رجل كافر إلى رجل صالح وورع ويخاف الله
أذكر وأناقش هذه الواقعة كي أدخل إلى مسار الإعلام العراقي الحاصل في العراق منذ سقوط النظام المجرم السابق وحتى يومنا هذا.
أولاً، أي إستغفال لعقل المواطن من قبل رجل الدين ومن قبل مقدم البرنامج ومن قبل القناة الفضائية العراقية قناة الدولة العراقية وقناة أهل العراق بكل مكوناتهم الإجتماعية والروحية وقناتي أنا أيضا المغترب في بريطانيا من أكثر من أربعين عاماً.
كيف لأمرأة وعائلة تسكن لسنوات في بيت يقابل بيت الإمام موسى الكاظم بكل المشاكل التي أحيطت بالإمام وصراعه مع السلطة وقيادته للناس وتوجيههم وهو من سلالة أهل البت ولا تعرفه جارته ولا يعرفه جاره!؟
ثم من أين أتى المواطن الجار بالموسيقى كي يستمع إليها.. من الراديو؟ من شريحة دي في دي؟ من مسجل الكتروني؟ من الفضائية العراقية؟ أم هل أتى بفرقة موسيقية كي تعزف له الموسيقى في منزله؟ هل يملك آلة البيانو وكانت إبنته تتدرب على نوتات السيمفونية التاسعة؟
أنت رجل دين وموجه ومصلح.. كيف تضحك على الناس وتلقنهم الحكايات الوهمية والكاذبة كي تنفذ منها لشتم كل من يعزف الموسيقى صوت الحياة أو من يرغب بسماعها. إذا كنت لا تستمع إلى الموسيقى ولا تحبها فهذا شأنك وإذا كان الإمام موسى الكاظم لا يحب الموسيقى فهذا شأنه مثل ما هو شأن هرون الرشيد أو أبي جعفر المنصور أن يحبا الموسيقى ويشعران بالسعادة لسماعها. أنك تروي هذه الحكاية المفتعلة كي تحرض الناس ضد الموسيقى وضد الغناء تمهيداً لغد سوف يحمل أولئك الذين ذهبوا لزيارة الإمام الكاظم الهراوات ويحطموا كل مخازن بيع الشرائح ويحطموا أجهزة الراديو في المقاهي ويهجموا على المسارح ودور السينما من أجل إبقاء العراق خاوياً من الحياة وتحويل الإنسان إلى شبح فارغ من العقل وممحو من العاطفة! وإذا كنت وكنتم تتمنون الجنة فلماذا لا تصنعون من العراق مثيلاً لها تنعمون بها تمهيداً لآخرتكم؟ لماذا وأنتم رجال دين أن تحولوا العراق البريء إلى جهنم وهو لا يستحق في كل تاريخه سوى الخير وأن يصبح جنة بعد أن غادر جحيمها دكتاتور العراق؟ أليست فرصتكم التاريخية أن تقدموا البديل الجنائني عن الجحيم الناري الذي عاشه العراقيون، أم أنكم صورة الشيطان في ذات الدكتاتور المريضة. كنتم في ذاته فخرجتم للوجود بعد أن زهقت روحه كي تنتقموا من الناس نهباً وخوفاً وجوعاً ومرضاً؟!
حكاية موسى الكاظم التي رواها رجل الدين مفتعلة بمجملها وليست حقيقية. حادثة إن صحت فهي بين الإمام وإمرأة تقابل سكنه. فمن الذي شاهدها ومن الذي رواها ومن الذي كتبها ومن الذي أوصلها إلى رجل الدين هذا؟
إن ما رأيته بعيني أصابني بحالة حقيقية من الخوف. ليس خوفاً من رجل أمن وليس خوفاً من مليشيا إسلامية إنما الخوف من المصير المرعب الذي أشاهده في ملامح الناس وفي عيون الأطفال، والخوف الذي يزرعه الإعلام في نفوسهم. وأبدأ من هذا البرنامج الذي شاهدته كي أنفذ إلى مأساة العراق ودور الإعلام في العراق ودور القناة الفضائية العراقية في هذه المأساة العراقية التي تحتاج لإنقاذها إلى معجزة أرضية يصنعها أبناء الرافدين، وليست معجزة سماوية مشكوك في حصولها أصلا!
لعل من أهم وأخطر مآسي حياة العراق quot;الجديدquot; ما بعد الإحتلال هو الإعلام الفوضوي وليس الحر، الذي سوف يترك الوطن حطاماً ويترك الشخصية العراقية منهكة مسلوبة الأرادة غير قادرة على الفعل وغير قادرة على فرز الصح من الخطأ وبالتالي تسهل تجزأة الوطن ويسهل نهبه، ليس نهب ثرواته فحسب بل ونهب اراضيه. والأخطر نهب وعيه ونهب حريته في التفكير!
لعب بريمر سيء الصيت والمخابرات الأمريكية والإسرائيلية دوراً سلبياً في العملية الإعلامية الهدف منها إرباك العراق وتقسيمه وتجزأته وتركه في الجهل في حالة إحتراب حيوانية، فزخ بريمر من مال العراق كميات في أيدي عدد من المرتزقة والمتعاونين مع الأمريكيين كي تفسد الحياة العراقية عبر وسائل الإعلام الأخطر في الحياة الإنسانية. وأتخذ هذا الإعلام شكلا مخيفاً عبر أدوات الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية. فقام بزخ المال لتأسيس شبكة للأعلام العراقية داخل المنطقة العربية وزخ المال لتأسيس الإعلام الكوردي المتناقص مع الهدف العراقي وزخ المال لتأسيس الإعلام الآشوري والإعلام الآشوري المضاد وزخ المال لتأسيس الإعلام الشيعي والإعلام السني!
دخلت مقبرة وادي السلام، وتصورت عدد الشهداء في تلك المقبرة الواسعة، ثم عدت إلى النجف وإلى السماوة لأرى شهداء أيضا، لكنهم يمشون على أقدامهم للزيارة وهم ساهمون ويمشون نحو المجهول. فأصبت بالرعب. حاولت أن أعرف ماذا يدور في أذهان الناس. وكان الجواب يكاد أن يكون واحداً.. الأفق.. الأفق المسدود!
لاشك أن الواقع السياسي منذ حقبة الدكتاتور وحتى يومنا هذا قد لعبا دوراً سلبياً وخطيراً في غلق هذا الأفق أمام عيون الناس وعيون الجيل الحالي والآتي، ولعب الإعلام دوراً كبيراً في تكريس هذه السلبية وهذه السوداوية في الحياة العراقية. وكثير من هذه السوداوية التي بلغت حد القتل والإغتيال والتفجير والإنتحار والأنتماء للإرهاب تتأتى من التفاوت الإجتماعي في المجتمع العراقي حيث يعيش الناس أغلب الناس تحت حد الفقر وتحت حد الإنسانية وهم ينظرون إلى دولة متجمعة في منطقة يطلق عليها المنطقة الخضراء في بغداد ولها ممثليات خضراء في المحافظات ويرون المال العراقي ينهب وهم غير قادرين حتى على تأسيس أسرة قادرة على العيش في حده الأدنى. ويلعب الإعلام في طلاء واجهة السلطة وتحويل المشكلة الإجتماعية العميقة والإقتصادية المتردية والثقافية المهاجرة، تحويلها إلى مشكلة سياسية بين المكونات!
بلغ عدد القنوات الفضائية التي تبث من كافة مدن العراق إثنين وأربعين قناة فضائية بين فضائية وأرضية، منها ستة عشر قناة شيعية، وسبع قنوات سنية وسبع قنوات كوردية وأحد عشر قناة مستقلة شكلاً ذات نهج سياسي وأخباري وقناة واحدة غنائية. أغلقت بعض الفضائيات بعد أن إنتفى الهدف من تأسيسها وتقلص العدد إلى ما يقرب من ثلاثين فضائية.
فأين واقع الإعلام مما يدور على أرض الواقع!؟
الإعلام المرئي في العراق الآن ليس سوى مدرسة متدهورة تتكون من مؤسسات لها أجندات معروفة وتلعب دوراً خطيراً في مستقبل العراق.
الناس ترى وتذهب إلى أعمالها وتعود منهكة إلى منازلها فترى بعض البرامج ولا يسمح الإنهاك الذهني والجسدي الذي رمي في أتونه الأنسان العراقي من التفكير عن مصادر هذه المؤسسات المرئية ولا من يقف وراءها ولا يسأل عن مصادر تمويلها. وقد تنام الناس دون أن ترى شيئا من شدة التعب وشدة الإرهاق وطبيعة الطقس المغبر والحار وإنقطاع الكهرباء. أكثر الناس الذين يشاهدون القنوات هم أصحابها وأهل منتسبيها والسلطة السياسية وحاشيتها والسلطة الدينية وحاشيتها وبعض العراقيين في المنفى الذين يحنون بين الحين والحين إلى وطنهم فيمرون على هذه القناة أو تلك ربما لسماع صوت حزين لمطرب أو كلمة يائسة لمواطن فقد أهله في إنفجار أو ربما كلمة أمل من مثقف في لقاء عابر في هذه الفضائية أو تلك. أما المواطن المغلوب على أمره والذي رأيته، والفقير لله ولعبد الله فلا شأن له بما يعرض في تلك القنوات لأنهم وفي أحصائية وإستطلاع قمت به يقولون لي. الكهرباء غير متوفرة ونحن ننام مبكراً كي نصحو مبكراً منتظرين رزق الله أو رزق عبد الله أو ننتظر مفخخة قد نسلم منها ونقول لبعضنا الحمد لله على سلامة العودة إلى الدار!
أصبح التعبير في العراق الحمد لله على سلامة العودة إلى الدار بدلا من سلامة العودة إلى الوطن!
إن صورة العراق والعراقي على شاشات هذه القنوات المتأخرة والمريضة حقاً هي صورة العراق على الأرض ولكن بشكل تظليلي وهي ليست إنعكاساً للواقع المعاش. فلو عملنا مقارنة بين ما يعرض على الشاشة وما يجري في الواقع فإننا نرى صورة العراق ما بين الواقع وبين الفضاء الذي يبث الصورة. ولكن ما تقوم به الفضائيات هو وضع كل المبررات السماوية وإلصاقها على صورة التخلف على الأرض بكل أشكاله الإقتصادية والإجتماعية. فصورة العوز في الآرض العراقية هي صورة الإكتفاء والقناعة في الشاشة التلفزيونية. وصورة المرأة الملفوفة بالسواد على أرض العراق هي صورة الورع والتقوى في القنوات التلفزيونية.
لقد أختفت صورة المرأة العراقية المبهجة لتحل محلها صورة المرأة العراقية العانس الخائفة من عقاب الله وعبد الله. وتحولت مقدمات البرامج إلى صورة للملاية التراثية وتحولت من حالة تقليدية تراثية كنا نتلصص عليها من ثقوب الباب في مجالس التعزية النسائية في عاشوراء ورمضان إلى مقدمة برامج تلفزيونية وندوات فكرية وفقهية إضافة إلى عضوات البرلمان العراقي المزيف. واقع مخيف ومرعب حقاً سيقود إلمجتمع إلى متاهات تغيب عنها الحياة المدنية والمدينية لتتحول المرأة إلى حصة من حصص أصحاب العمائم ورؤوساء المؤسسات الإسلامية. ويتكرس الإعلام لتأكيد هذه الظواهر ما جعل العديد من النساء العراقيات يطمحن في الهروب إلى بلدان ثانية والعيش فيها quot;مهما كان الثمن!quot; وهي حالة مدانة. ومدان فيها الحاكم السياسي والحاكم الديني والحاكم الإعلامي.
ثمة ظاهرة خطيرة أيضا كرسها الإعلام العراقي والمرئي منه بشكل خاص وهي ظاهرة quot;الأمر الواقعquot; حيث لم يجد الشباب فرص العمل التي تؤمن لهم الحد الإدنى من الحياة الإنسانية وحتى يطرد من رأسه تهمة الإنتماء للعهد السابق وتهمة الإنتماء للشيوعية وتهمة الإنتماء لليسار وتهمة الإنتماء للتحضر وتهمة الإنتماء للتحرر وتهمة الإنتماء حتى للموقف المستقل الحر، صار مضطراً وبحكم سياسة الأمر الواقع وسياسة التيار الجارف أن يترك بعض شعيرات ذقنه تنمو تحت وفوق شفتيه وأن يخلع ربطة العنق المحرمة والغريبة على الدين وأن يلبس اللون الأسود ويمشي في مسيرات الزيارة الشعبانية وغيرها ويضع الخاتم المفضض والمفصص في أصبعه الخنصر ويخلع خاتم الزواج الذهبي وأن يبسمل قبل تناوله الطعام بقناعة أو بغيرها ويرفع من جدار داره صور الفلاسفة والكتاب ليضع بدلها صور الأئمة المعصومين مرغماً، وأن يضع إشارة الهاتف الجوال مقطعا لرادود أو فاصلا لروزه خون أو أصوات الأكف على الصدور في أيقاع بالصدى ويصبح على الشاب أن يكثر من إستعمال كلمة quot;مولانهquot; وquot;أدامكم اللهquot; و quot;بارك الله في مسعاكمquot;.. كل هذا التيار يرسخة في واقع الحياة حجم الإعلام المتداول في البيوت والمقاهي عبر شاشات التلفزة وصار الذهاب للعمل في سيارات الأجرة الصغيرة والكبيرة حالة كارثية حيث يفرض صاحب السيارة أصوات التعازي الحسينية واللطم وأنغام الرادود وبصوت عال مفروض على مزاج ركاب السيارة لا يستيطع الراكب حتى أن يطلب من صاحب السيارة تخفيض الصوت قليلا وهذا ما حصل معي وكادت أن تحصل لي مشكلة عندما رجوت صاحب التاكسي ومعي بعض الركاب وكنت في الكرسي الأمامي إلى جانب السائق وأنا مرهق من الطقس الحار المغبر، رجوته أن يخفض صوت الراديو قليلاً فنظر إلي شزراً وهو يقول لي quot;شنو ما عاجبك أستاذquot;!؟ فأعتذرت قائلاً quot;عاجبني بس شوية راسي يوجعنيquot;!
فأين تكمن المشكلة الحقيقية للإعلام الذي يقوم الآن بتخريب البنية الإنسانية في المجتمع العراقي؟
المؤسسات الإعلامية المقروءة والمسموعة وبشكل خاص المرئية هي إنعكاس لطبيعة الواقع السياسي. والواقع السياسي العراقي هو واقع متدهور وغير كفوء وغير جدير بأدارة شؤون المجتمع العراقي والدولة العراقية. وبقدر ما تحتمي السلطة بالإعلام فإنه يحتمي بها ويحتمي بالتفكك الحاصل في جسدها المريض، فلو كانت هناك سلطة حقيقية في العراق لما وجد مثل هذا الأعلام ولما أخذت القنوات الفضائية حريتها في تنفيذ أجندات خارجية خطيرة!
السؤال المطروح أمام الوجدان وليس أمام السلطة وليس أمام النزاهة وليس أمام حتى الناس. من يمول تلك المؤسسات الإعلامية؟ سؤال وجيه على ما أظن ومنطقي على ما أعتقد؟ سؤال البلدان المتحضرة التي تخلصت من الفوضى بقانون quot;من أين لك هذا؟quot; إن الفضائية البسيطة تحتاج إلى ما يقرب من خمسة عشر مليونا من الدولارات في حدها الأدنى، فمن يوفر ذلك لمؤسسات وquot;أفرادquot; كانوا حتى الأمس لاجئين يعيشون على الكفاف في قم quot;المقدسةquot; أو أن مؤسسها كان لاجئاً عند اللاجئين الفلسطينين، فتحولوا فجأة إلى أصحاب فضائيات كبيرة ومؤسسات صحفية تعبث بإعلام وثقافة العراق!؟ هذا جانب، والجانب الآخر وهو الأخطر، وفق أي تشريع ووفق أي قانون تتأسس الفضائية؟! فالفضائية أو أية مؤسسة ذات طابع إعلامي وثقافي شكلا، كوسيلة إعلام هي سلاح وسلاح خطير وقاتل ومدمر للتكوين الإنساني في حال لم يستخدم في جانبه الأبيض.. وفق أي قانون تسلم هذه الأسلحة، وبيد من؟ هل يندرج ذلك ضمن ما يسمى حرية الإعلام والتعبير أم يندرج ضمن الفوضى القائمة في البلد!؟ نعم يجب أعتماد مبدأ حرية التعبير ولكن حرية التعبير لمن يملك حرية التأسيس المبنية على العلم وعلى التخصص وعلى الأكاديمية وبعد هذا وقبل هذا على الوطنية وعدم الإنصياع للخارج أصالة أو وكالة أو تحت نزوات ذات سمة مرضية تعويضاً عن تاريخ ملتبس! لا يجوز تأسيس أية مؤسسة إعلامية بدون قانون وبدون ضوابط تتعلق بمصلحة الوطن. وهذه القوانين سارية في كل بلدان العالم!؟ أعطوني بلداً يستطيع فيه الفرد أو الشركة من إطلاق قناة فضائية أو مؤسسة إعلام أو حتى صحيفة بسيطة بدون قانون! في دولة الإمارات؟ في إيران؟ في المملكة العربية السعودية؟ في بريطانيا؟ في أمريكا؟ فلماذا إذاً تسود الفوضى الإعلامية في بلادنا لتتحول كافة المؤسسات الدينية والجوامع والحسينيات إلى قنوات فضائية بدون رخصة وبدون قانون.. فمن يرفدها بالمال ولمصلحة من تبث الجهل والتخلف وبرامج إستغباء الناس وإستغفالهم وكأنهم قطيع من خراف لا يفقهون!؟
لماذا لا يفتح الإعلام الملفات الخطيرة في مسار العراق أبان حقبة الدكتاتور وأبان حقبة الإحتلال، الجواب لأن الإعلام القائم في العراق هو إبن تلك الحقبتين! لماذا لا يفتح على سبيل المثال ملف خطير وهو إغتيال إثنين وسبعين مناضلا من الكفاءات السياسية والثقافية والعلمية في بشتاشان شمال العراق لمعرفة حجم الجريمة ومن يقف وراءها ؟ ألا يتطلب شرف مهنة الإعلام والصحافة والوطن أن تفتح الملفات من بيروت حتى جبال قنديل حيث موقع الجريمة في بشتاشان؟ وأن يحاسب المسؤول عن هذه المجزرة مهما كان مركزه الحالي، أم أن المصالح المادية والموقعية تستدعي العبور على جسر الشهداء!؟
لماذا لا يفتح ملف إغتيال الأسطورة quot;سردشتquot; في أربيل، الشاب الأسطورة في التأريخ الإنساني؟!
لماذا لا يفتح ملف إغتيال المثقفين والأكاديميين العراقيين قبل وبعد الإحتلال؟!
هذه جرائم لا يجوز أن يسكت الإعلام عنها!
لماذا لا يفتح ملف النفط ؟
كل الملفات مغلقة إذن؟
فماذا تعمل المؤسسات الإعلامية؟
إن كل مؤسسة لديها وسيلة لغسل المال والتستر على مصادر تمويلها وأهدافها!
القنوات الدينية تتخذ من الحسين راية لغسل المال الحرام!
والقنوات التي تدعي الإستقلال والممولة خارجياً تقوم بمعالجة مثقف مريض عراقي أو عربي، أو تقوم بدفع هدية مالية لرياضي يريد العلاج خارج بلاده، أو تقوم بدفع رواتب لفنانين محتاجين قبلوا بالذل نتيجة تقدم العمر وعدم القدرة على الصمود في هذا العصر الرديء وعدم قدرتهم على الفرز بين الشحاذة والكرامة! هذه الأساليب معروفة هدفها غسل الأموال المنهوبة. ذلك يضع الدولة في موقف المساءلة، إذ كيف تتخلى هذه الدولة عن المواطنين وعن المبدعين وهي تنظر إلى مؤسسات الإعلام ذات الدعم المشبوه أن تقوم بدور جمعيات خيرية نيابة عن الدولة، لتقديم بعض المساعدات للمرضى والمحتاجين من أجل التستر على جرائم في تاريخ أصحابها ومؤسسيها!. العراقيون لا يعيشون في بلد تحكمه جمعيات خيرية، بل هو وطن ثقيل وعملاق في إرثه الحضاري. ثقيل وعملاق في كرامته. ثقيل وعملاق في ما وهبه الله من خيرات. فليس المثقف وحده جدير بالعلاج ولا الفنان ولا المريض العربي. إنها إعلانات مدفوع ثمنها من مال الوطن. كل مواطن عراقي يملك الحق في العمل ورغد العيش والعلاج والسفر والخبز والحرية دون حاجته إلى مؤسسات خيرية تحمل مجازاً إسم مؤسسات إعلامية صحفية أو قنوات فضائية تلفزيونية!
الحسين له من يحبه ويدافع عن رسالته وهو ليس بحاجة إلى فضائية! وكذا المواطن العراقي!
إن القنوات الفضائية والمؤسسات الصحفية والإعلامية المتأسسة بعد الأحتلال وضمن فوضى السياسة وفوضى الإقتصاد وفوضى الإعلام، في مزاجها العام وبرامجها ونهجها هي مؤسسات صراع على مراكز القوة السياسية. صراع على السلطة بهذا الشكل أو ذاك. لأن إمتلاك السلطة يعني إمتلاك القوة والسلطة. وإمتلاك القوة والسلطة هو حاجز التستر على النهب والماضي الملتبس. وأمتلاك القوة والسلطة هو الحصول على quot;عافرمquot; من الجهة التي ترتبط بها هذه الفئة السياسية أو تلك، لأن الوطن العراقي للأسف مرتبط من خلال قواه السياسية التي تتصارع اليوم بأشكالها العرقية والدينية بجهات خارجية، إذ لم يتشكل حتى الآن التيار الوطني الكفيل بإستقطاب أصحاب الحق في الوطن.. الناس... الشعب. فالإعلام بعيد عن هموم الناس لأن المؤسسات الإعلامية متأسسة وفق أجندة خارجية إذا لم تسع إلى تنفيذ مفردات تلك الأجندات فإن الدعم المالي يتوقف عنها. وهنا أذكر على سبيل المثال حواراً دار بيني وبين بعض أعضاء أتحاد أدباء النجف. قال لي أحد الكتاب، هل لك أن تتصور مدينة مثل النجف يُتخذ قرار في مؤتمر دولي بإذربيجان لإعتمادها عاصمة للثقافة الإسلامية عام 2012. وتتشكل لجنة لرسم برنامج سنوي ويتم توجيه دعوات لشخصيات إسلامية عربية وغير عربية، وبعد بضعة شهور تختفي ميزانية النجف العاصمة الثقافية وتلغى الدعوات وتختفي اللجان ولا يتم الحديث عن هذه الكارثة الثقافية في التاريخ وتسكت وسائل الإعلام عن هذه المهزلة ولا يحرك هذا الحدث مشاعر الدولة والحكومة والبرلمان وكأن شيئاً لم يكن!؟
فالاعلام العراقي الذي تشغله الأزمات السياسية وتعتبر هذه الأزمات مادة القنوات وأدوات التعبير الإعلامية الأخرى لا يدلل سوى على حقيقة واحدة أن الإعلام هو منبر الصراع السياسي المرئي والملوس وليس هو إعلاماً يعبر عن مأساة ما يدور في العراق وما يهدد العراق من مخاطر لا يعلم بها سوى الله سبحانه. وليست هي وسائل الإعلام تسهم في لم شمل الناس بدلا من تفريقهم، تسهم في شدهم بالعالم المتحضر تسهم في حث المغتربين أن لا ينسوا وطنهم تسهم في أن يكبر العراقي على الجرح وينهض من جديد أن يغني ويكتب ويبدع ويأخذ مكانه تحت الشمس وليس خائفا يتعجل الرحيل نحو المقابر!؟
الفضائيات العراقية ليست سوى تكوين معبر عن جامع، عن حسينية، عن دولة كوردية قادمة، عن حرب أمريكية إيرانية، عن متغيرات دراماتيكية في المنطقة، عن هدف إسرائيلي بعيد quot;المدىquot; عن مخطط لنهب ثروات الوطن، عن عراق خاو من الثقافة، عن عراق مريض متقاعد بدون رواتب تقاعدية.. عراق يسهل تقسيمه وتسهل تجزأته وتقاسمه بين دول الجوار لمصالح أمريكية وتركية وخليجية. والعراقيون يغيبون أنفسهم تحت وطأة الفقر وتحت وطأة التظليل الإعلامي!
تأتي هنا بداية المقال عن اللقاء الذي أجرته الفضائية العراقية مع السيد quot;....quot; الذي حدثنا عن قصة الإمام موسى الكاظم والموسيقى المنبعثة من بيت جاره في منطقة الكرخ.
فما هي القناة العراقية، وما هو هدف تأسيسها؟ وكيف تعمل؟ ووفق أي منهج؟ وما هي الكفاءات الجديرة بإدارتها؟ وما هو حجم عقولهم؟
القناة الفضائية العراقية!
موطن الفساد الفكري والمالي!
تأسست القناة الفضائية العراقية مع دخول بريمر سيء الصيت العراق بعد سقوط النظام الأهوج السابق. وبريمر كان يحمل مخططاً جهنمياً لتدمير الوطن العراقي مستخدماً ثروات العراق ومصارفه المفتوحة وأنابيب النفط المنتجة بدون حساب للسوق النفطية وبدون حساب للتوزيع العادل لخيرات الوطن وبدون حساب للعلاقة بين حجم الإنتاج والبيئة! وفق هذا المخطط الذي له أبعاد شيطانية لا يعرف بها سوى الله، فبوشر بتأسيس الفضائية العراقية وتأسيس فضائيات كوردية موازية وأصدار صحيفة الصباح وتشكيل ما أطلق عليه شبكة الإعلام العراقية. ولكي يكون المخطط ناجحاً لابد وأن يكون المهيمنون على وسائل الإعلام هم من الذين أتوا من الدورات التي أقامتها لهم الولايات المتحدة الأمريكية قبل مخططها في أنهاء نظام الدكتاتور. وكانت الفضائية العراقية عند تأسيسها بدون ميزانية محددة. وكان من أهداف بريمر إغراق العراق بالفساد ووسائل التخريب بأموال عراقية فكان يغدق المال على القناة حتى تم صرف ما يقرب من مائتي مليون دولار في سنة التأسيس الأولى. وتداول على إدارة القناة وفي فترة قصيرة جداً خمس أدارات كان النهب يسري بينها بدون رقيب ولا حسيب، فإغتني عدد من معدومي الضمير من هذه القناة مثلها مثل بقية المؤسسات. ثم تقرر وضع ميزانية محددة للقناة وكان مبلغ الميزانية المقر هو تسعة وثمانين مليون دولاراً لسنة التأسيس النظامية الأولى. ووفق تقسيم المحاصصة أصبحت إدارة القناة من نصيب المجلس الإسلامي وتم تعيين شخص يبيع الإدوات الإحتياطية للسيارات مديراً عاماً للقناة. وحالما تسلم quot;السيدquot; منصبه هذا وبين يديه هذا الحجم من المال حتى بدأت المشاكل الأخلاقية والمالية بلغت ذروتها حين أعلن رئيس مجلس النواب من على منصة البرلمان وبلغة لا تليق به quot;جيبوا لي هذا الـ.... شوفوه وين يتخم.. جيبولياه حتى أضربه بالـنعال.quot; وعلى ضوء اللحظة المتفجرة في البرلمان العراقي تم نقل مدير القناة إلى السلك الدبلوماسي! وعين سفيراً للعرق لدى الفاتيكان! وتم تخفيض ميزانية القناة في السنة اللاحقة إلى تسعة وسبعين مليونا من الدولارات! أي بتخفيض عشرة ملايين دولاراquot;.
ينتسب إلى هذه المؤسسة والرقم أخذته من القسم الأداري والمالي في القناة عند زيارتي لها في بغداد أربعة آلاف وثلثمائة وسبعين منتسباً. وإن عدد منتسبي قناة الميادين quot;التي أجرى صاحبها لقاءً مع رئيس وزراء العراق نوري المالكيquot; هو ثلثمائة وعشرون منتسبا فقط بين مقدم برامج وفني وتقني وإداري! وإن عدد منستبي قناة الجزيرة بحدود ثلثمائة منتسب وكان عدد المنتسبين في سنة التأسيس لقناة الجزيرة خمسة وثمانين منتسباً فقط وعدد منتسبي القناة العربية ثلثمائة وخمسين منتسباً وعدد منتسبي قناة الأم بي سي العملاقة بكافة قنواتها الموازية الخمس هي ثمنمائة وخمسون منتسباً أي مائة وسبعين منتسباً للقناة الواحدة. فكيف يتم تأسيس قناة بائسة في العراق بأربعة آلاف منتسب؟! فإذا ما أفترضنا أن معدل الراتب هو الفا دولار للمنتسب الواحد فإن إجمالي الرواتب وبهذا العدد ما يقرب من المليون دولار سنوياً فماذا تصنع القناة وإدارتها بمبلغ االثمانية وسبعين مليون دولاراً المتبقة؟
عندما دخلت القناة وفوجئت أنها نفس محطة تلفزيون بغداد في الصالحية. إن البناء لا يستوعب حتى أربعمائة شخص. فكيف يبلغ عدد منتسبي الفضائية أكثر من أربعة آلاف منتسب. لأن غرف القناة وصالاتها وبلاتوهات التصوير والبث وحتى ممرات القناة لا يمكن أن تستوعب هذا العدد من المنتسبين وعندما سألت المسؤول الأداري خبرني بأن عدداً كبيراً من هؤلاء المنتسبين يتقاضون رواتبهم وهم في بيوتهم وكلهم مسجلون بقوائم مقدمة من قبل بعض quot;السادة ndash; السيد تعبير عن المنتسب نسباً إلى محمد بن عبد اللهquot; وهؤلاء المنتسبين لا يأتون إلى القناة سوى في يوم تسلم مخصصات الرواتب إضافة إلى وجود أسماء وهمية!
يدير هذه القناة التي هي ضمن شبكة الإعلام العراقية مجلس أمناء ليس لهم أي دور في تطوير القناة وأصلاً دورهم معطل، وليسوا هم من ذوي الإختصاص إنما يمثلون ما يطلق عليه المكونات السياسية للحكومة العراقية ويتقاضى كل واحد منهم مرتباً ما يعادل خمسة آلاف دولاراً، وهذا المبلغ الذي يتقاضونه بدون أي جهد يسكتهم بالضرورة عما يجري داخل القناة من نهب وفساد مالي وأخلاقي.
وعين الرضا عن كل عيب كليلة.. ولكن عين السخط تبدي المساويا!
لقد تمكنت من معرفة العقود المتعلقة ببرامج القناة سواء البرامج الجاهزة أو المنفذة وصراحة ما أطلعت عليه لا يعبر سوى عن حالة الإستهتار ليس فقط بأموال البلد بل إستهتار بأذواق الناس من خلال نوع البرامج وطبيعتها التي تنعكس على ذوق الناس ومزاجهم لما للإعلام من تأثير غير محدود في حياة الشعوب والأمم لأنه قائم على علم وعلى دراسة وله مؤسسات عملاقة علنية وسرية وهذا هو سر إنتشار الأقمار الإصطناعية وإنتشار القنوات الفضائية بشكل لافت للنظر في المنطقة العربية وفي العراق حيث أصبح تأسيس القناة الفضائية هو رغبة من هو قادر أن يدوس على ضميره ويرتبط بقوى خارجية لتحقيق الأجندات التي سوف تحدد وتهدد مستقبل العراق!
لو أردت الدخول في التفاصيل فإن الشيطان سوف يدخل معي بالتأكيد ولذلك فإني هنا أتحاشى ذكر التفاصيل التي عرفتها وأمتلكت بعض وثائقها لأتحدث عن النتائج الكارثية للإعلام في العراق والتي أخطرها الإعلام المرئي.
هذه القناة الفضائية العراقية التي تمول من الدولة هي قناة عراقية وليست قناة شيعية وليست إسلامية أيضاً. ولذلك لا يجوز إحتكارها لصالح طائفة دون أخرى، فهي قناة ليست دينية فيما تناوب على إدارتها منذ تأسيسها حتى الآن رجال دين إسلاميبن وليسوا مسلمين! رجال دين ليس بالضرورة بعمامه، فالعمامة في المخ وليست حول الرأس. وإلا لو لم تكن كذلك، لما توقفت برامجها على مدى أسبوع في ذكرى إستشهاد الأمام موسى الكاظم. وإرغامنا على سماع قصة الإمام مع جاره الذي يستمع للموسيقى. وإن تبقى القناة تبث لناس يمشون في الشوارع على مدى أسبوع.
كنا نمقت الدكتاتور وشمولية نظامه وشمولية إعلامه الذي كان يزعجنا بمسيراته المليونية على مدى يوم كامل في قنواته الفضائية ليغسل أدمغة الناس ويصنع جيلاً خاصاً به ويكتب التاريخ وفق مزاجه. إن بإمكان قناة الفرات مثلا أو قناة كربلاء أو قناة بلادي أن تكرس برامجها لمثل هكذا مناسبة وليست القناة العراقية، قناة كل العراقيين.
لقد توالى على أدارة القناة الفضائية العراقية بعد أن أقر قانونها ثلاثة من الإسلاميين وليسوا من المسلمين، الأول من المجلس الأعلى والثاني من التيار الصدري والثالث quot;الحاليquot; من حزب الدعوة وربطة العنق لا تنفي وجود العمامة. والشخصية الإسلامية ولا أقول المسلمة لا تصلح لإدارة المؤسسات الثقافية أو الإعلامية وهي الأخطر لأنها تسهم في توجيه الناس، والعمامة يمكن أن تشكل غطاءً للفساد الأخلاقي والمالي مثل ما هي غطاء للرأس! وربطة العنق لا تلغي وجود العمامة! وإن الإنتماء للأحزاب والتيارات الدينية يشكل غطاء الأمان للنهب! ولا أحب الدخول في التفاصيل خشية أن يدخل الشيطان معي!
إن حجم الفساد في القناة الفضائية العراقية دون أن أستثني من إدارتها أحداً هو صورة الفساد في أية مؤسسة من مؤسسات الدولة وصورة الفساد في أية وزارة من وزارات الدولة. وهذا الإعلام المظلل للواقع المعاش يبرمج لصالح التخلف الذي رمى بالعراقيين إلى أعماق العصور الحجرية الأولى وأبعدهم عن كل ما هو حضاري وإنساني، جعل العراق:
bull;وطناً تتفشى فيه الأمراض بكل أنواعها.
bull;وطناً تتصاعد فيه نسبة الأمية.
bull;وطناً تتصاعد فيه نسبة العنوسة.
bull;وطناً تتصاعد فيه نسبة الهجرة والهروب.
bull;وطناً تتصاعد فيه نسبة التلوث.
bull;وطناً معدل عمر الإنسان فيه لا يتعدى الخمسين عاماً وستنخفص النسبة بشكل مطرد.
bull;وطناً يشرب فيه الناس مياه ملوثة تتداخل فيها مياه الأنهار الملوثة أصلاً بالنفايات بمياه التصريف quot;الفضلاتquot; يشرب منها العراقيون ويطبخون بها طعامهم! ويتوضأون منها ويتطهرون، ويصابون بشتى أنواع الأمراض.
bull;وطناً تداخلت فيه قوى الإرهاب بقوى الأمن والجيش.
bull;وطناً إنوجدت فيه فرص عمل جديدة لقتلة مأجورين من الشباب العاطلين عن العمل ينفذون أية عملية إغتيال فردية أو لعائلة مقابل خمسمائة دولار للعملية الواحدة بمسدسات كاتم صوت. يقتلون ويذهبون لتناول وجبة الغداء أو العشاء أو الفطور بدم بارد. ولا أحد يحاسبهم لأنهم ينتمون إلى مليشيات لمؤسسات مشاركة في السلطة والبرلمان، أو ينتمون لعشائر! وخلال تواجدي تم تصفية عائلتين بكامل أفرادها ورجل صاحب كشك تم قتله وبعد أن نفذت العملية في الشارع راح القتلة يمشون بإسترخاء إلى بيوتهم أو ربما إلى مطعم لتناول الغداء!
bull;وطناً لا تعرف فيه أيام العطل الوطنية والدينية حيث بلغ عدد العطل الرسمية رقماً تشل فيه الطاقات والأعمال وتتعطل فيه معاملات الناس ويتأخر فيه بناء الوطن.
bull;وطناً لا تعرف كيف تعبر فيه الشارع ولا كيف تنام بدون أحلام وكوابيس.
bull; وطناً ينتشر في البغاء ويصدر البغاء بعد أن كان وطن الستر والشرف وألإكتفاء.
bull;وطناً تنخر في وجدان جيله الجديد مخدرات مستوردة ومخدرات تنتج داخل العراق كي يتمكن الجيل الجديد من السفر وهو في مكانه. السفر نحو الحلم والسفر نحو الأمل، وإذا ما صحا من غفوته وتعذر عليه شراء المخدرات مارس مهنة القتل والخطف بحثاً عن المال لكي يعود للخدر والأوهام.
bull;وطناً تعطلت فيه مؤسسات الصحة ولم تعد فيه مستشفيات ولا خدمات صحية بمستوصفات.
bull;وطناً، تخربت فيه مؤسسات العلم والمعرفة.
bull;وطناً جفت مياهه وذبلت فيه سعفات النخيل.
bull; وطناً كل طعامه يأتي من وراء الحدود وليس فيه من ينتج ولا من يزرع ولا من يصنع المواد الإستهلاكية ولا من يصنع الخير!
bull;وطناً يكثر فيه الموت وتنحسر الولادة، وما يولد ليس مكتملاً ولا سليماً.
bull;وطناً ينطفئ فيه الضوء ويطلق فيه على الكهرباء تعبير quot;الوطنيةquot; وهو تعبير يشبه النكتة ويدلل على وطنية من يمنحهم ساعة من الكهرباء وسط درجة حرارة تعدت الخمسين.
bull;وطناً الداخل إليه مفقود والخارج منه مولود.
bull;وطناً أصبح فيه الإستيلاء على المباني العامة وعلى بيوت المغتربين ظاهرة عادية.
bull; وطناً لم يعد فيه قانون يحمي المواطن سوى قانون العشائر والمحسوبيات.
bull;وطناً حرمت فيه الثقافة وبدأت الدعوة بشكل مكثف لتحريم الموسيقى التي لم يحبها موسى الكاظم لأسباب غير معروفة وغير موثقة أصلاً.
bull;وطناً يدير وزارة الثقافة فيه وزير الدفاع!
bull;وطناً مواطنوه في المهجر لا يحترمون سفاراتهم بل يحتفرونها، لأنها صورة لوزارة خارجية لا يعرف أسرارها سوى الشيطان وحده!
bull;وطناً إنطفأت فيه الحياة وسادته فيه العتمة ومات فيه الفجر وخاف فيه الليل وتعب منه النهار.
مثل هذا الوطن الذي أصبح خارج التاريخ وخارج الجغرافيا تعتبر فيه الحقوق الإنسانية منتهكة بشكل فاق التصور وهي منتهكة بالكامل ويحق لمواطنيه وفق هذه الحالة الموثقة، مطالبة الأمم المتحدة بإنقاذه. ولم يعد الحل فيه ممكناً حيث تعذر فيه ظهور المثل الذي يقود الناس وتعذرت فيه فرص الإصلاح، ولم يعد ممكناً إعادة الحياة الطبيعية لمواطنيه سوى أن تلغى فترة الإحتلال ونتائجها كاملة ويصبح العراق تحت وصاية الأمم المتحدة لمدة عامين في الأقل تديره قوى تكنوقراط متحضرة وأمينة وكتابة قانون جديد وتجري فيه إنتخابات نزيهة وتحمى حدوده من المتسللين. عندها يمكن القول ثمة أمل. وهذا الحل لا يتحقق سوى عندما يتأسس تيار وطني عراقي يقوده شباب العراق ويقومون بجمع تواقيع المواطنين مدعمة بالوثائق المكتوبة والمرئية لتقديمها إلى الأمم المتحدة لأن أنتهاك حقوق الإنسان تجاوزت المعقول وليس لنا من حل سوى الوصاية الدولية.
إن واقع العراق المتدهور الذي شهدته بنفسي هذه المرة وليس من خلال وسائل الإعلام هو واقع مخيف حقاً ولا يليق بشعب العراق الطيب ولا يليق بأصوله الحضارية كما أنه لا يليق بأي شعب آخر وصراحة لا يليق حتى بشريعة الغاب!
إن العراقي لا يدرك الحياة التي يعيشها بنفس القدر الذي يدركه الشخص الذي غادر العراق أربعين عاماً وتعرف على صيغة الحياة في الغرب وحتى في منطقة الخليج، ثم عاد إليه. فالعراق بالنسبة لي كان صورة منطفئة للحياة. العراقي يعيش اليوم بحكم الضرورة ويعيش بحكم التلقائية ويعيش بحكم الحياة التي تمشي ويحصدها الموت. وطالما للعراقيين مقابر ومدافن فهم قانعون بحكم القدر.
كل هذا الذي يحدث يلعب فيه الإعلام دوراً خطيراً وهو مرتع للسرقة وهذا شأن قانوني، القانون مسؤول عنه وبأثر رجعي!!!!؟ quot;وهذه مسؤولية لجنة النزاهة لزيارة شبكة الإعلام العراقية وصحيفة الصباح والأهم زيارة الفضائية العراقية لمعرفة ما يجري الآن وما كان يجري وبأثر رجعي أيضاًquot;.
مثلما من الصعب إصلاح الوطن العراقي فمن الصعب إصلاح مؤسساته ومنها شبكة الإعلام العراقية.
ولكن الأخطر هو مساهمة الإعلام إلى جانب السياسيين ورجال الدين وبشكل واع ومقصود في تدمير الوطن العراقي حتى يصبح مريضا قابلا للنهب والتجزئة. فبدلاً من أن يشكل الإعلام عامل نقد وكشف للواقع أصبح الإعلام في العراق يمثل السلطة السياسية وجانب منه يمثل السلطة الدينية وكلاهما في العراق مبعث خطر على حياة الإنسان العراقي، والإعلام يقوم بطلاء وتجميل صورة اللصوص والقتلة ورجال الدين!
كاتب وإعلامي مقيم في بريطانيا
[email protected]
التعليقات