في تاريخ العراق المعاصر ملفات سوداء وخزي كبيرة تلطخ بالعار مسيرة تاريخ حافل بالدم و الغدر و الخديعة وسط محاولات تلطيف الجريمة و إضفاء لمسات الخلود على ملفاتها المقرفة و المشينة، ففي خطوة غبية من قيادات زمن الغثيان الطائفي الراهن في العراق يتحدث البعض عن سعي وزارة الثقافة العراقية لإفتتاح متحف لقائد الإنقلاب العسكري الأسود ( 14 تموز/ يوليو 1958 ) اللواء عبد الكريم قاسم رئيس وزراء العراق الأسبق يعرضون فيه مقتنيات و آثار ذلك الزعيم!! وهي قليلة ماديا لاتتعدى سيارته المنخورة بالرصاص أو بدلته المغطاة بالدماء!! فهل هذه آثار وطنية تعبر عن هوية حضارية أو معرفية!!

لقد كان عهد اللواء عبد الكريم قاسم بداية النهاية للتهوض الوطني و الإقتصادي و السياسي العراقي، وهو العهد الذي فتح بوابة الجحيم على العراقيين وكان مدخلا لكل الصراعات الدموية الرهيبة التي نشأت و تفاعلت ثم أدخلت العراق في دوامة الإنقلابات العسكرية الدموية المتوالية التي لم تؤد نتيجتها في النهاية إلا لقيام نظام فاشي شمولي مهد الأسس وعبد الطريق لإحتلال العراق أمريكيا و إيرانيا وتهشيم عناصر بقوته و تحويله لدولة فاشلة متضعضعة الأركان، وبصرف النظر عن أية بطولات وهمية أو عنتريات وطنية مزيفة يحاول البعض التمسك بخشبتها المسوسة فإن ذكرى إنقلاب اللواء قاسم لا تحمل إلا أبشع معاني الغدر و الجريمة والتي ذهب هو شخصيا ضحيتها بعد سنوات قليلة من الإنقلاب الأسود الذي قاده والجريمة الكبرى التي إقترفها بإنهاء النظام الدستوري الملكي الشرعي الر صين و الجميل الذي كان يقود السفينة العراقية المنهكة وسط أنواء دولية عاصفة فرضت مستحقاتها في النهاية ليدخل العراق في عصور الإضمحلال و الفوضى و العدمية، لقد أسقط عبد الكريم قاسم ومجموعته من الضباط المتمردين النظام الملكي الهاشمي العراقي الذي إرتضاه العراقيون كشرعية وطنية ولكنه لم يشيد بدلا منه نظاما أفضل منه بل ترك الفوضى تضرب أطنابها ليتحمل هو شخصيا ومع المؤسسة العسكرية العراقية النزر الأكبر من مسؤولية دمار و تدمير العراق، فقبل أيام قليلة أشار الأخ و الزميل الكاتب الكويتي الكبير و الشهير فؤاد الهاشم لحكاية عبد الكريم قاسم وتطرق فيما تطرق لمجزرة ( فصر الزهور )!!

و الحقيقة إنها مجزرة ( قصر الرحاب ) وليس الزهور! وهو نفس القصر الذي حوله البعثيون فيما بعد لمعمل تعذيبي كبير و أسموه ( قصر النهاية )!!، فتلك المجزرة الشنيعة كانت عنوانا صارخا على المستقبل الذي سينقل الضباط البلد إليه، تلك المجزرة الغادرة الجبانة لايصح أبدا بأن تخلد ذكراها بل يجب إدانتها ولعن من تسبب بها ومارس الجريمة بين زواياها، لقد تم الإجهاز الجبان و المخجل على الأسرة الهاشمية الحاكمة بخسة أين منها خسة المغول وهم ينكلون بأهل بغداد، بعد تنفيذ إنقلاب 14 تموز ودخول اللواء العشرين بقيادة عبد السلام عارف لبغداد يتبعه اللواء 19 بقيادة عبد الكريم قاسم هجمت زمرة عسكرية على القصر الملكي في بغداد المعروف بإسم قصر الرحاب لتعتقل العائلة المالكة و منهم الملك الراحل فيصل الثاني بن غازي بن فيصل الأول وخاله الوصي السابق على العرش الأمير عبد الأله بن الملك علي بن الحسين ووالدته وزوجته و شقيقته وعددا من الخدم و الطباخين ليتم قتلهم بطريقة وحشية خالية من الشهامة وبدون ذنب ولاجريرة خصوصا و أن الملك فيصل كان بصدد الإعداد لزواجه من أميرة من الأسرة المصرية الحاكمة السابقة وكان في ريعان شبابه ( 23 عاما ) ولم يكن هنالك أي داع لقتله بل أنه كان شابا بسيطا و يتيما محبا للناس و الخير ولكن غدر الغادرين كان الأسرع لتتكرر مأساة الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته في كربلاء و لكن بطريقة عصرية وثورية تمثلت ليس في إرتكاب الآثام والرزايا و التمثيل بالجثث المنهي عنها دينيا بل بتقطيع أوصال الخدم و الطباخين، وحكاية المصير المفزع لجثة الأمير عبد الإله كارثية في مختلف المقاييس و مقرفة في الواقع وكذلك كان مصير أبرز رموز العراق رئيس الوزراء الأسبق نوري باشا السعيد وولده صباح وغيرهم العشرات من الذين سحلتهم جماهير الغوغاء متأثرة بنداءات عبد الكريم وعبد السلام، لقد كان إنفجار الحقد المتوحش و بطريقة جبانة وخالية من الشهامة والإنسانية ضد جثث لم يراع الغوغاء حرمتها دليل مضاف على دور النخب الحاكمة في تعزيز الوحشية و الإجرام في نفوس الشعوب، وإذا كان المدافعون اليوم عن عبد الكريم قاسم يزعمون برفض قاسم لحملات القتل و السحل و التمثيل بالجثث فما الذي فعله من أجل معاقبة من تسبب بتلك المآسي.

الجواب لاشيء بالمرة بل الإمعان في مهرجانات الإعدام وتصفية الخصوم و ترديد شعار سخيف أطلقه غوغائيو العراق في ذلك الزمان يقول ( إعدم.. إعدم.. جيش وشعب يحميك )!! أو الشعار الفاشي الآخر الذي يقول ( ماكو مؤامرة تصير.. و الحبال موجودة )!! أو ذلك الشعار التافه التجديفي الذي يقول ( جبريل نادى بالسما.. ماكو زعيم إلا كريم )!!... وغيرها من تفاهات تلكم الأيام الصاعقة... ويبدو أن قادة الفشل العراقي الراهن لم يقرأوا التاريخ أو يتعظوا من أحداثه وكل ماجادت به قريحة أهل الثقافة العراقية الجديدة التائهة و الحائرة بين اللطم و الغناء وتمجيد الأغبياء و إستنساخ البعض الآخر هو تخصيص متحف لواحد من رموز الإرهاب ولشخص تلطخت يداه بدم الأبرياء ولقائد عسكري خان شرف القسم الذي تعهد بحماية البلد والعرش الشرعي فعبد الكريم قاسم الذي أضفوا عليه صفات القدسية والنزاهة خائن للأمانة ولقسم الولاء وأحدث شرخا كبيرا في المجتمع العراقي.. تاريخنا العراقي محنة كبيرة بما يضمه من صفحات عار سوداء لقد رحل عبد الكريم قاسم على يد رفاقه من الضباط إعداما سريعا في دار الإذاعة العراقية عام 1963 بنفس الطريقة التي أنهى بها النظام الملكي ولايوجد له قبر في أرض العراق، ورحل عبد السلام عارف حرقا في الجو في حادث غامض عام 1966وأنتحر النقيب عبد الستار سبع العبوسي الذي أطلق النار على العائلة الحاكمة في قصر الرحاب بعد أن أصيب بالجنون عام 1970 وأختفى ضباط الإنقلاب بين قتيل وصريع و مشرد وأنطوت صفحات مؤلمةوسوداء و لكن مصير العائلة الهاشمية الحاكمة لا زال يلعن كل الغوغاء و المجرمين والقتلة الذين تم إستنساخهم في معامل الجريمة السلطوية في العراق.. فالرحمة على أرواح شهداء العائلة الملكية العراقية وعلى كل الأحرار الذين صارعوا الفاشية والغوغاء وتقديس المجرمين.


[email protected]