فى الفجر صحا الناس على صوت هدير الشاحنات تخترق طرقات القرية الترابيه الضيقة لتستقر امام (دوار) العمدة، صعد الأهالى على اسطح المنازل للاستطلاع وكان المشهد هكذا :يقف الضابط وأمامه العمدة والخفراء مصطفين بسلاحهم وأمامهم شيخهم، الضابط يتلو اسماء من ورقة، وما أن ينتهى الضابط من نطق آخر حرف من الشطر الثالث من الاسم ينطلق احد الخفراء راكضا الى ناحية من نواحى القرية، وما هى الا دقائق حتى عاد كل خفير ممسكا بتلابيب شخص،وصعد الجميع الى الشاحنات وغادروا الى الابد، وعاشت قريتنا هادئة لعقد كامل من الزمن (أو هكذا كان انطباعى وقتها)، تلك كانت عينه من قبضة عبد الناصر القوية على زمام الامور فى كل بر مصر.

وفى الوقت نفسه كان صدام حسين يتسكع فى شوارع القاهرة، بعد المحاولة الاولى الفاشلة لاغتيال عبد الكريم قاسم، والتى اشيع وقتها انها من تدبير عبد الناصر ورفاقه، ولعل فتى العشرينات المتأثر بأفكار البعث الأولى وزعيمه ميشيل عفلق وقع أيضا تحت تأثير الآله الاعلامية الجبارة لجمال عبد الناصر، تلك التى كان يقودها هيكل من الاهرام وأحمد سعيد ومحمد عروق من صوت العرب، وربما كان الشاب منبهرا أكثر بطريقة استاذه فى (الامساك الحازم) بزمام الامور بقبضة من حديد، منبهرا أيضا بصعود نجمه الى عنان السماء، وقرر فى نفسه ان يسلك نفس الطريق، وقد كان، فبعد ان ازاح عبد الناصر استاذه وقائده محمد نجيب واعتلى السدة، كذلك انتظر صاحبنا الفرصة المواتية حتى حانت بعد ربع قرن، وأزاح قائده ومعلمه احمد حسن البكر، واعتلى السدة وطبق الاسلوب البعثى فى الامساك (الاكثر حزما) بالامور، وتفوق بجدارة وحكم بالحديد والنار وأحيانا (بالغاز)، وكانت باكورة قراراته بعد اسبوع واحد من تولى رئاسة العراق (رسميا)،هى مذبحة يوليو الشهيرة والغريب انها كانت فى ذكرى ليلة قيام الثورة التى قادها ملهمه جمال عبد الناصر. ورغم رأى الكثيرين المخالف وبعيدا عن أحكام التعميم فالموضوعية تقتضى القول بأن حقبة عبد الناصر فى مصر وحقبة صدام فى العراق، كانتا على درجة من الازدهار الثقافى والاقتصادى والاستقرار المجتمعى، مما لا نستطيع انكاره بسهولة، كما لا نستطيع تفسيره بسهولة ايضا.والغريب ان الاعراق والاثنيات والاديان التى تتناحر الان بكل وسائل العنف، رضت وقبلت بعضها البعض،وربما كان ذلك على مضض لكن فى نهاية الامر هم تعايشوا فى الحقبتين وفى البلدين دون مشاكل تذكر، ومما هو جدير بالاعتبار ان الرجلين لم يستخدما الدين ستارا سياسيا فى أى من مراحل حكمهما، بل على العكس تخلص عبد الناصر من تلابيب الاخوان فى أول فرصة، وحجّم صدام حسين نشاط وتأثير المرجعيات الدينية فى كل الطوائف ووضعها فى الاطار الذى ارتضاه لها وارتضته هى ايضا لنفسها، وان كان هناك جدل عن احتكار العرب السنه الأقل عددا لقسم كبير من السلطة والثروة وتهميش الأغلبية من الشيعة والاكراد، وهو الأمر الذى شجع على نمو الضغائن المدفونة لعقود تحت الارض، كما كان هناك أيضا عامل مشترك بارز فى الحالتين وهو العصر الذهبى للمسيحيين على ضفاف الانهار الثلاثة. لهذه العوامل وغيرها الكثير كانت سيرة هاتين الشخصيتين المثيرتين للجدل هى من أبرز ما يمكن الاعتداد به عند مناقشة تاريخ حقبة من أهم الحقب تأثيرا فى مصير أمة العرب، وهى النصف الاخير من القرن الماضى، الذى اقتسمه الرجلان متتاليان على قيادة قوتين، من أهم القوى الفاعلة فى المنطقة فى ذلك الوقت، ودون فاصل زمى تقريبا (فى الفترة من وفاة عبد الناصر وحتى تولى صدام الحكم كان هو اللاعب الرئيس فى حكم العراق)، وان كان لكل منهم رؤيتة المغايرة لاعتبارات عقائدية وفكرية كثيرة.وقد تضافرت على الرجلين عوامل كثيرة داخلية وخارجية حتى لا يحصل أى منهم على نصر حاسم فى حياته، وان كان عبد الناصر قد حصل على نصر شعبى أكثر منه سياسى أو عسكرى فى العدوان الثلاثى، إلا أن صدام انتظر طويلا وانهكته الحرب مع ايران، وخرج متوترا ليبدأ فى البحث عن نصر فى أى اتجاه وبأى ثمن، وظل الرجلان طيلة فترات حكمهما تشغلهم هذه القضية فهم زعماء ذوى كاريزما لكنهما بلا نصر واحد حاسم يدخلون به التاريخ. لذلك وغيره لم يصمد عبد الناصر أمام بريق أقواس النصر التى كانت تتراقص امام عينيه على ابواب القدس فى كل عرض عسكرى، تغذيها هتافات مدوية لجماهير اسكرتها نبرات صوته الموحية بالثقة المؤكدة فى النصر، ولعل هذا الحلم المؤجل هو الذى صور الرجل دائما فى مشهد المتأهب لالتهام اسرائيل(الوديعة)، ودخول القدس خلال ساعات ورغم غلالة دخان تحجب نصف الحقيقة فى هذا الموضوع، إلا أن النصف الثانى كان واضحا جليا، فقد كان الجميع مندفعون الى مخاطرة لم تكن بأى حال محسوبة، وان كان من الناحية النظرية البحته، تقول الشواهد ان قوس نصر ضخم مزين كان فى مرمى البصر.

وعندما اكتملت خبرات النقل والامداد والتموين واعادة التمركز للجيش المصرى من عمليات اليمن، وهى الخبرات التى كانت تنقصه بشدة بعد تحديثه، عندما اكتملت تلك الخبرات جعلت القادة الشباب يبدون فى آخر العروض العسكرية وكأنهم يدشنون اللمسة الاخيرة فى الاعداد للحرب، التى بدا وكأن عبد الناصر ورفاقه يدفعون اليها دفعا، وربما كانت الدفعة الكبرى هى من داخل اللاوعى، وهو الشوق الدفين للسير بالنياشين والمارشات العسكرية على الابسطة الحمراء وعبور الحلم المراوغ، قوس النصر المزين بأكاليل الزهور، وحدثت الفاجعة وبعدها مات عبد الناصر، ولم يصمد صدام حسين كثيرا أمام وهم خلافتة وخصوصا بعد ان ثبت عدم صلاحية آخرين حاولوا ارتداء القميص لكنه كان فضفاضا عليهم يحتاج الى كاريزما من نوع خاص ظن الرجل انه يمتلكها بحجم جسمه واتساع ملامح وحهه وشاربه الكث، ولما اطمئن انه المرشح الوحيد بدأ هو الآخر فى البحث عن غزوة وأقواس نصر لتعويض هزيمة استاذه، لكن هذه المرة انتقل قوس النصر لاعتبارات يطول شرحها من ابواب القدس الى ابواب فارس، لكن فارس عصت وأرهقته فاضطر للبحث عن ضحية مستأنسة ليبتلعها، ورغم التحذيرات ابتلع الإمارة الصغيرة لكنها انفجرت فى جوفه وكان الانفجار مروعا.وفى الطريق (أشاوس) جاهزون بنفس السيناريو، جاهزون بتقديم أوطانهم على طبق من ذهب للشيطان،ذبائح دموية على مذبح الشهوات النرجسية المتعطشة لمارشات النصر واكاليل الغار، ينتجون أطنانا من الهراء عن اسلحة سرية وقدرات خارقة وطير أبابيل ستنقر جماجم اعدائهم ثم نفاجأ بالبيان الاول: (علوجهم على مشارف المدينة )،وتدفع الشعوب المغرر بها الثمن فادحا، تنفجر من الداخل، ويبرز تجار الموت وتضيع حقوق البشر ويهان الانسان ويدفع الجميع الثمن فادحا، لنزوة شخص هى الناتج الطبيعى لديكتاتوريات ساقت شعوبها للدخول فى أنفاق مظلمة، كما تدخل قطعان الدواب التائهة الى حقول الالغام، ثم تبدأ وصلات النواح على اللبن المسكوب، فقبل يوم واحد من السقوط فى الفخ المتقن فى الخامس من حزيران، كان معنا دولة يستغرق انشاؤها ساعة واحدة فى اجتماع واحد بين عبد الناصر والملك حسين والشقيرى، لكننا كنا اسرى المبدأ المدمر ما لا يدرك كله الآن يترك كله، لاحلول وسطى ولا طرق أخرى بديلة تبلغ الأهداف ولو مرحليا، إما كل شيئ أو لاشيئ وفى كل الاحوال كان لا شيئ، انها ثقافة صراع القبائل فى البوادى، التى لا تتعدى خسائر المعارك فيها سوى بعض الخيام والاماء وبئر أو بئران وبعض الماعز، والذى يعتقد أن نكبة فلسطين كانت باكورة الحصاد المر لهذا المبدأ التراثى المتجذر، فاته أن المبدأ كان حاكما لمسارات كثيرة فى تاريخ هذه الامة، أوصلها لما هى عليه بدءا من فجر الدعوة وصراعات الخلافة مرورا بالخروج من الاندلس وحتى غزو الكويت.

ولاخلاصه وعفويته وطموحه وشعبيته واهدافه النبيلة كان التاريخ رحيما بالاول، كافأه بالموت على فراشه يحوط به أحباؤه ومريديه، لكن بعد أن ضاعت بقية القدس أو بالاحرى بقية فلسطين، ومعها نصيب مصر من قارة آسيا، وتقلص حلم الورثة من قوس نصر على ابواب القدس الى مجرد معبر متحرك على القناه. أما الثانى فكانت نواياه مبهمة، قهر أعراق بدعاوى مشكوك فى صحتها،وجيّش كل جيرانه عليه وعاش فاغرا فاه متلمظا لابتلاع ما حولة، وعامل جيرانه كبدو أثرياء وتعالى عليهم بنظرات فوقيه، وركبه جنون العظمة فى اواخر ايامه، ودفع ثمنا باهظا جدا فاق بكثير ما كان يتمناه له ألد أعداؤه، وضاعت أحلام امبراطوريات الزعيم الملهم والرئيس القائد ومعها ثروات شعب ودولة وارض وتراث. ومات الرجلان ولم يحصل ايا منهما على نصر حاسم اشتاقا اليه كثيرا ولم يقدر لاى منهما ان يمر من تحت قوس النصر الذى داعبه سنين طوال، وان كان الاول عوضه ينابيع دموع المصريين الغزيرة التى كانت رغم الهزيمة المرة لازالت ترى فيه المخلص المنتظر. اما الثانى فلم يكتف اعداؤه بقتله فى مشهد دراماتيكى عنيف،فاق مشاهد قتل نورى السعيد وعبد الكريم قاسم بمراحل، لم يكتفوا بذلك وانما اجتثوا كل ما يمت له ولنظامه بصلة، بدءا من عائلته وحتى تماثيله وصوره،قتلوه فى ليلة عيد متشفّين شامتين ليس فى شخصه فقط وانما فى عرقه كله وانفجرت ولازالت تنفجر نوافير الدماء فى الشوارع.والأمانه تقتضى القول أنه بحكم اعجابى فى مرحلة صباى بالاول، وتعاطفى أحيانا مع الثانى لذا لا أستطيع إدعاء الحياد فى هذا الطرح، فلست مؤرخا أو شارحا للتاريخ، وانما هى وجهة نظر ربما غلبت عليها العاطفة عن صعود وهبوط نجمان لإثنان مختلفان من البشر عايشت حقبتهما كاملةـ حركا أحداث كبرى أثرت ولا زالت وستظل تؤثر فى مسار تاريخ هذه الامة.ولو طوع الاثنان أو حتى أحدهما مبدأ مالا يدرك كله الآن يترك كله، الى مبدأ ما لايدرك كله الآن لا يترك كله الان فقد يدرك فى المستقبل، ولو كبح أحدهما أو كلاهما جماح الشهوة المدمرة، شهوة عبور اقواس النصر (المفخخة) لعشر سنوات أخرى فقط لتغير وجه التاريخ تماما إلى النقيض.