قطع الطريق الرئيسي بين بغداد وباقي المحافظات العراقية، إلا مجال بسيط لعبور السيارات، وانفصلت مناطق واسعة في بغداد عن محيطها لتفقد تواصلها بالعالم الخارجي خوفا ً من سيارة مفخخة أو إنتحاري مفخخ يندس بين (المشاية)، التي تملئ الشوارع، ليفجر نفسه ويقتل أكبر عدد منهم. فالملايين يتوافدون من جميع محافظات العراق لأداء الزيارة بمناسبة وفاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم في بغداد تحميهم عشرات الآلاف من عناصر الجيش والشرطة بعد أن أعلنت الحكومة يوم الخميس عطلة رسمية. ولكن، وقبل ذلك، فقد مدد البرلمان العراقي عطلته أسبوعا ً كاملا ً بسبب تلك الزيارة المليونية. فالحياة الرسمية وغير الرسمية في لعراق معطلة بسبب الزيارة وبسبب عشرات الإنفجارات التي أستهدفت الزوار والتي راح ضحيتها المئات بين قتيل وجريح.

ليس مايهمني هنا معنى الزيارة مشيا ً على الأقدام أو ماهي قيمة ذلك، فمن حق أي إنسان ممارسة طقوسه الدينية بحرية كاملة وعلى الدولة حمايته، ولايهمني هنا شكل تلك الزيارة التي توقف من أجلها كل شيئ حيث تحولت الشوارع إلى حسينيات بمواكبها وأعلامها الملونة وأصوات قراءها، أن الذي يهمني هو من المستفيد من تعطيل الدولة بكل تفاصيلها ومفاصلها وتوقف حياة الناس فيها من مشاغل وأعمال وإنتاج وخدمة وغير ذلك، أن الذي يهمني هو من المسؤول عن صرف ملايين الدولارات من أجل دعم تلك الزيارات المتكررة والتي يتوافد فيها الناس بالملايين من كل حدب وصوب في مشهد دراماتيكي وهستيري في بعض الأحيان حتى تظن بأن الناس تعيش في غيبوبة جماعية يقلد بعضهم فيها البعض الآخر. فعلى طول الطريق تنتشر آلآلاف من سرادق العزاء وعلى طول مئات الكيلو مترات بأسم المواكب لدعم الزوار والمشاية الآتية من كل مكان. فتجد من يعطيك الأصناف العديدة من الطعام مما لذ وطاب ومما لم تشاهده أعين إنسان إضافة للفاكهة بأنواعها والعصائر والخبز والحلويات، وتجد هناك من يرش عليك الماء ومن يقوم لك بالمساج لمواصلة السير. تجد في تلك المواكب كل شيئ وكأن لايوجد في العراق جائع أو فقير. أن الذي يحزنني أكثر هو أن هناك على جانبي الطريق، ليس أبعد من مئات الأمتار، الآلاف من الفقراء والمحتاجين ممن يعيشون في العشوائيات ويسمون بالحواسم.

قد يصيبك الذهول عندما أقول أن مئات الملايين من الدولارات تصرف في تلك المواكب من أطعمة وأشربة لايعلم أحد مصدرها. حتى أن الحكومة العراقية بصدد إستحداث مديرية للشعائر الدينية تحت لواء الوقف الشيعي لإستيعاب تلك الإحتفالات الضخمة والتي تتكرر مرات عديدة في السنة والواحدة. ولكن عندما تتفحص مليا ً تجد بأن تلك المواكب تعتمد في جل مصاريفها من أموال الشعب العراقي بشكل أو بآخر. فمواكب الوقف الشيعي تصرف من خزينة الدولة بشكل مباشر، ومواكب الأحزاب الدينية تصرف من ميزانية الأحزاب التي تعيش على بركة الدولة مع غياب قانون ينظم عمل الأحزاب وطريقة تمويلها، ومواكب المسؤولين والسياسيين هي من أموال الشعب التي سرقوها بشكل أو بآخر، ومواكب شيوخ العشائر هي من أموال الدولة التي تدعمهم لمواقفهم السياسية. ولكن، علينا أن لاننسى مواكب التجار والمقاولين ورجال الأعمال وغيرهم ممن يعتقد بأن تلك الزيارة هي فرصة لإراحة الضمير بعد نهب أموال الناس بالباطل، وليس أقل كون تلك الزيارات هي دعايات تجارية تشير إلى إرتباط أؤلئك المموولين بالمقدس.

أن الذي أعرفه بأن العراق هو بلد ديمقراطي تعددي، أي من حق كل مواطن ممارسة شعائره وطقوسه الدينية بكل حرية وعلى الدولة حمايته حسب الدستور العراقي. ولكن، أن تستخدم أموال الدولة من أجل دعم الشعائر الدينية لطائفة معينة وتسخر كل مرافقها ليس لدعم تلك الشعائر فحسب بل من أجل الإستفادة منها في المعترك السياسي فهذا موضوع آخر، إذ هو نوع من أنواع التمييز في التعاطي مع بعض الهويات الثقافية والدينية على حساب الهويات الأخرى، أي في خدمة أصحاب السلطة، أو قل على الأقل هو هدر المال العام في مصارف لاتخص الدولة من قريب أو بعيد، حتى أن الكثير من الفضائيات ووسائل الإعلام ومنها مايمول من خزينة الدولة مشتركة في دعم تلك الزيارات. فنحن في العراق لسنا بالدولة العلمانية والتي يفصل فيها الدين عن السياسة ولسنا بالدولة الدينية التي تمسك بزمام الأمور بعيدا ً عن الديمقراطية والتعددية. فنحن في دولة غريبة الملامح لايعرف شكلها الحقيقي ولاصفاتها الجوهرية. أن في العراق يتجلى أبشع أنواع الإستغلال السياسي للدين من أجل توظيفه في معترك الحياة السياسية للحصول على مكاسب سياسية حتى لو كان الثمن أن تعرض حياة الناس لخطر الموت من قبل الإرهابيين الذين يقتلون الناس لمجرد القتل والمرتبطين بأجندة إقليمية. فنحن بإختصار أمام مهرجان جماعي للقتل بإسم الدين لؤلئك البسطاء من الناس لنضيف رقما ً جديدا ً من القرابين لأعداد القتلى والجرحى واليتامى والأرامل.

أن المخيف في كل الذي ذكرت هو ذلك التحالف الخطير بين مؤسسات الدولة وبين الطبقة الدينية البرجوازية التي تتبادل في المصالح مع الدولة في إحياء الشعائر الدينية. فبعد أن كانت الشعائر الدينية شبح يهدد الدولة الظالمة، بالخصوص في زمن النظام السابق حيث كان المشاية يشكلون خطر على الدولة بتظاهرهم ضد الظلم والطغيان، أصبحت تلك الشعائر في خدمة الدولة وبعض الأطراف فيها لإبراز الهوية السياسية الطائفية مقابل الهويات السياسية الأخرى للحصول على مكاسب سياسية مرحلية. فمن جهة تستفيد بعض الأطراف في الدولة، بالخصوص الأحزاب الدينية، من أعداد الذين يمشون في الزيارات لإبراز الهوية الطائفية، ومن جهة أخرى يستفيد البرجوزازيون المتدينون من ذلك بترسيخ سلطتهم المعنوية على بسطاء الناس من خلال إشاعة طريقة التفكير الغيبية لتجلب لهم المزيد من السلطة، أي كسب في الأموال وإزدهار بالتجارة وغير ذلك.

لانريد في العراق دولة للشعائر الدينية محولة العراق إلى حسينية كبيرة يقودها معممون ليس لهم حظ من الحياة إلا العلوم الدينية بل نريد دولة مدنية ترعى بها الحقوق والواجبات يقودها ذوي الإختصاص من علماء ومثقفين ومفكرين، حتى لو كانوا من المعممين. نريد دولة لاتسرق أموال الشعب ومن ثم تلقي لهم بفتات أثناء الزيارات وتطعمهم بأسم المقدس لتوهمهم بإنها هي التي ترعى مصالحهم وتحميهم من الخطر في حين هي التي تعرضهم للخطر من خلال الدعم اللامحدود لتلك الطقوس بعد أن تستعين بشيوخ المنابر ليفعلوا فعل المنوم المغناطيسي.


[email protected]