غنى قاموس الخطاب السياسي هو من غنى الواقع الذي هو أساس مقارباته المختلفة من جهة أولى. ولعل هذا هو المعنى العميق للمنهج الجدلي الذي يقوم على ضرورة التحليل الملموس للواقع الملموس. وهو من جهة ثانية، من غنى الفكر الذي يحمله، والنظرية التي تسنده ويعمل على إذاعتها وترسيخها في المجتمع. وفي المقابل، وعلى العكس من ذلك، يعود فقر وضمور قاموس الخطاب السياسي لجماعة من الجماعات، ولحركة من الحركات الاجتماعية أو السياسية، إلى الفقر الذي تعاني منه: لجهة علاقاتها الحقيقية والفعلية بالواقع، ومدى قدرتها على القيام بالتحليل الملموس للواقع الملموس من جهة أولى، ويعود من جهة ثانية، إلى الفقر الذي تعاني منه على مستوى قاعدتها الفكرية والإيديولوجية المفترض فيها أن تحدد الأفق العام للخطاب السياسي، وتكشف عن مختلف أبعاده، باعتباره خطابا مركبا بطبيعته، وليس مجرد انعكاس للواقع، كما يذهب إلى ذلك كل فكر تبسيطي اختزالي ينتهي به المطاف إلى إهدار مقومات الخطاب السياسي، والقطع مع متطلبات تحليل الواقع الملموس. الأمر الذي يعدم كل إمكانية للتأثير فيه، فأحرى إمكانية تغييره كما هو مطلوب.

الخطاب السياسي الديني فقير في مجمله وإلى حد بعيد، مقارنة بغيره من أنواع الخطاب الوضعي لأن ركائزه الدنيوية محدودة إلى أبعد الحدود، وذلك على عكس دواعيه وأسسه الأخروية والروحية التي لا يمكن للخيال الإنساني أن يحيط بها مهما حاول ذلك. ولا يغير من هذه الحقيقة الزعم الذي يروج له ممثلو الإسلام السياسي بأن هذا الخطاب لا تحده حدود، ولا يبلغ كعبه أي خطاب غيره، من حيث كونه صالحا لكل زمان ومكان. فالحقيقة تقتضي التفريق بين الدين أي دين وبين الفكر الديني أو الخطاب السياسي الديني. إذ بقدر ما يكون غنى البعد الروحي الديني قويا، شاملا وعميقا، بقدر ما يكون فكره وخطابه السياسي ضعيفا، محدودا وضحلا، كما يمكن لمس ذلك في خطاب بعض الجماعات السياسية التي تحاول اعتماد الفكر الديني إيديولوجية رسمية لها في صراعها الضمني والمفتوح مع مختلف قوى المجتمع السياسي التي تعتمد فكرا سياسيا نابعا من الواقع في مختلف أبعاده الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في هذا البلد أو ذاك.

والمعارضة السورية تقدم الدليل القاطع من خلال خطابها السياسي على الفقر المدقع الذي تعاني منه على مستوى فكرها إذا كان هناك فكر مكتمل الملامح يسند هذا الخطاب أصلا، عدا شذرات من الفكر الديني الجهادي هنا ونتف من الفكر الليبرالي في صيغه المختزلة هناك وبعض شطحات الفوضوية والباكونينية هنالك. ومن علامات فقر الخطاب الإيديولوجي والسياسي نزعته الاختزالية التي تقفز على تعقيد الواقع، وتحاول إنكار البعد التركيبي فيه الذي يجعله في آن واحد غنيا ومتعدد الأوجه ولا يقبل، بالتالي، كل عملية اختزالية ليس لأنها تفقره فحسب، بل لأنها تبتعد به عن عناصره المكونة، ومعطياته الأساسية تمسكا بوهم التبسيط الذي ما كان متحكما في فكر أو في سياسة إلا أخرجهما من دوائر الواقع الملموس ليلج بهما دوائر الأوهام والسراب القاتل.

في مقابلة مع أستاذ الفلسفة السياسية الأمريكي هيرفي مانسفيلد ضمن كتاب حواري خاص بعنوان: حوارات فلسفية، أشار إلى إنه كان قد قرر التخصص في دراسته الجامعية في الفكر الشيوعي، الذي كانت تمثله التجربة السوفييتية، غير أنه ما لبث أن تراجع عن هذا القرار، انطلاقا من إدراكه لما اعتبره حقيقة الفقر الذي يعاني منه القاموس السياسي السوفييتي حيث لا تتجاوز مفاهيمه ومصطلحاته الأساسية بضع مئات. وإذا كان هذا الحكم يحمل في مضمونه نوعا من المبالغة التي هي من مقتضيات الصراع الإيديولوجي بين الشرق والغرب، زمن الحرب الباردة، فإن العبرة في الواقع تكمن في انتباهه إلى الضعف الذي كان يعاني منه الخطاب الإيديولوجي والسياسي السوفييتي، الأمر الذي وسمه في نظر الكاتب بضعف في جاذبيته وقدرته على الإحاطة بالواقع الغني في مختلف أبعاده وتعقيداته. ومما لا شك فيه أنه لا مجال للمقارنة بين قاموس الخطاب السوفييتي الموسوم بالضعف والفقر وبين قاموس خطاب المعارضة السورية الذي لا يتجاوز المائة كلمة عند من يتسمون ببعض السخاء من بين ممثليه وهم قلة لا يكاد يعتد بها في تقدير الاتجاهات على أساس فرضيتي فقر وغنى الخطاب السياسي الذي يؤطر ممارسة قوى تلك المعارضة.

وبالفعل، فإن إلقاء نظرة متفحصة إلى الخطاب السياسي للمعارضة السورية على اختلاف توجهاتها، منذ الإعلان عن انطلاق الحراك السياسي في سورية منتصف آذار مارس عام 2011 يضع المرء أمام عدة حقائق تكشف عن ضعف وفقر وهشاشة الأسس التي يقوم عليها ذلك الخطاب، سواء على مستوى الوثائق البرنامجية التي أنتجتها المعارضة أو على مستوى شعاراتها السياسية في خضم هذا الحراك. بل يمكن القول: إن هذا الخطاب يتأسس في كثير من الأحيان على عدد من العبارات التي ليس لها أي مضمون في الواقع أو على نقيض ما يقتضيه معناها في سياق إطلاقها.

وفي هذا السياق، يمكن الإشارة إلى عدم قدرة هذه المعارضة على صياغة تصور للتغيير الدستوري لما بعد ما تسميه الثورة، وهو مناقض أتم التناقض لمفهوم الثورة الأمر الذي اضطر بعض فصائلها إلى الإعلان عن العودة إلى دستور البلاد في خمسينيات القرن الماضي، في عملية نكوصية واضحة، وعلى مقاس الفكر السلفي الذي يبحث عن المستقبل في الماضي، لأنه غير قادر، من حيث محدداته الفكرية والإيديولوجية، على وضع تصور واضح المعالم لمستقبل الشعب خارج استنساخ تجارب ماضيه التي تنتزع من سياقها التاريخي، وتتم محاولة فرضها قسرا على الواقع، بغض النظر عن التفاوت القائم بين سياق موضوعي وآخر.

وبطبيعة الحال، فإن هذه الملاحظة تسري، أيضا، على اختيار علم المعارضة بالرجوع إلى علم انتهاء فترة الانتداب الفرنسي، وكأن المياه التي جرت تحت جسر تاريخ سوريا الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي لا أثر لها يذكر في تحديد معالم الواقع، وتغيير معطياته الملموسة في مختلف المجالات ولو كان ذلك بتفاوت بين مجال وآخر، بطبيعة الحال. أي وكأن تلك المياه لم تجر أصلا، فتوقف تاريخ سورية في العهود السابقة عن تجربة حزب البعث التي استمرت أكثر من أربعين عاما. ومما لا شك فيه أن إنكار مفهوم الزمن وما تحمله تجارب الشعوب من تراكم في المكتسبات دليل ضعف وفقر وهشاشة، وليس دليل قوة وغنى على الرغم من الاستعانة باستخدام عبارة الثورة للتغطية عليه، إلا أن هذه العبارة، منظورا إليها في مختلف أبعادها ومستوياتها، كفيلة بكشف مستور هذا الخطاب الأساسي وهو ضعفه وفقره وهشاشته القاتلة.

إذا كان ما تعتبره تلك المعارضة الاستبداد السياسي خلال عقود طويلة من حكم البعث قد أثر سلبا على خطابها الدعائي والسياسي، فإن هذا العامل لا يمكن أن يفسر هذا المستوى المثير من الفقر في ذلك الخطاب لأن تجارب الشعوب والأمم المختلفة أبانت أنه بالإمكان إبداع خطاب إيديولوجي وسياسي غني ومتقدم تحت سلطة الاستبداد، وفي سياق محاولة التخلص منها مبدئيا قبل النزول إلى ميادين اقتلاعها من أرض الواقع. وفي اعتقادنا، إن طبيعة هذه القوى الإيديولوجية والسياسية المكونة للطيف السياسي المعارض هي التي فرضت عليه هذا الفقر الذي لا يقبل الجدل على مستوى حقيقته، إضافة إلى طبيعة ارتباطات هذه المعارضة على الساحة العربية وكونها تحاول أن تكون امتدادا فكريا وسياسيا لأنظمة سلفية وعائلية لا علاقة لها في بنائها الاجتماعي والسياسي والثقافي بمقومات الفكر الحديث المتسم بالغنى والقائم على التحليل الموضوعي للوقائع الملموسة.

أضف إلى هذه العوامل النظرة السائدة لدى معظم القوى التي تتصدر هذا الحراك إلى مسألة الحداثة الفكرية والسياسية والتي تختزلها في بعض مظاهرها التقنية، وربما الانتخابية أيضا. أي دون تبنيها في أبعادها الجوهرية المناهضة لكل أنواع الفكر الظلامي الذي يدعو إلى استقالة العقل وإبعاده عن دوائر تقرير مصير الإنسان على مختلف المستويات وفي كافة الميادين.

والحال، أن محاولة المعارضة السورية إرضاء الغرب الاستعماري المعول عليه للتدخل العسكري المباشر لإسقاط النظام وإرضاء بعض الأنظمة التقليدية والغارقة في مفاهيم وممارسات القرون الوسطى والتي تم التعويل عليها لتمويل الحملة العسكرية على سورية وتسليح هذه المعارضة جعل مفاهيمها ملتبسة خاصة في كل ما تعلق بالالتزام بفلسفة حقوق الإنسان ومقتضيات بناء دولة الحق والقانون الديمقراطية. إذ عليها أن لا تتجاوز في تحرير قاموسها السياسي السقوف التي حددتها الإيديولوجية السائدة لدى الأنظمة التي تربطها بها علاقة تعتبر أنها ضرورية لإنجاح مشروعها السياسي، أي حتى لا يتم النظر إلى هذه المعارضة باعتبارها النقيض الضمني لتلك الإيديولوجية، وبالتالي الخصم الممكن لتلك الأنظمة السياسية والمنظومات الفكرية التي تقوم عليها والذي لن يلبث أن يتحول إلى خصم بالفعل، في مختلف المجالات والمحافل الإقليمية والدولية. ولعل هذا هو الذي أضفى على هذا الخطاب إلى جانب فقره المدقع طابعه الهجين الواضح.

فهل يمكن تجاوز هذا المعوق الأساسي لفائدة ممارسة سياسية سوية منفتحة وغنية بقدرتها على الإبداع في مختلف المجالات؟
لا يبدو من مقاربة خطاب هذه المعارضة أنها على طريق تطوير ممارستها وإغناء خطابها بل إن اشتداد الأزمة السورية وتصاعد العنف والأعمال المسلحة قد ترافق مع ظهور عينة من العبارات السوقية أصبحت أساسا من أسس الخطاب المعارض، وأداة من أدوات الصراع الأمر الذي ينبئ بمسار انحداري لا أحد بإمكانه أن يتكهن بما سيصل إليه من الإسفاف كما تدل على ذلك بعض الشعارات المرفوعة وما يستخدم من عبارات في بعض الحوارات مع من يعتبرون أنفسهم رموزا للمعارضة السورية.