فلم يعد خصيبا فقد تصحر وزحفت الرمال عليه، ولم يعد هلالا فقد تآكل بفعل فاعل وأصبح أقرب لمحاق،بعد أن كان مرشحا ليصبح بدرا، والمحاولات الدؤوبة جارية لمحو بقية المعلم الذى كان هنرى برستيد أول من أسس لتسميته )الهلال الخصيب)، من ساحل الابيض ودلتا النيل فى الغرب إلى جبال زاجروس فى الشرق مرورا بفينيقيا وآشور، اى شمال مصر وفلسطين (التاريخية) وسوريا )الكبرى)، فسكان دائرة الرمال البيضاوية ايقنوا مبكرا الخطر المحدق بهم فيما لو استمر زحف تأثير بؤر هذا القوس الناهض فى هذه البقعة الخضراء التى بدأت فى حصارهم بما يشبه هلال يحوط بصحرائهم من الغرب والشرق والشمال، هذه البؤر التى باتت تضيئ فى القاهرة ودمشق وبغداد وبيروت، وبدأ نورها يشع ثقافة وازدهارا، مسرح وسينما ومطابع وترجمة وصحافة وشعر ورواية ونقد وقطن وقمح وسكك حديد وكهرباء.

وكانت هذه البؤر تستمد قوتها من الاتصال المباشر بالمناطق المـزهرة فى العالم الجديد التى بدأت فى جنى ثمار الثورة التى اندلعت فى كل أوربا وأزاحت فى طريقها الهادر كل مايشتبه أنه قد يعيق هذه الشعوب عن بلوغ أهدافها فى النهضة التى تمنتها ودفعت فيها ثمنا باهظا، وكان سكان الصحراء على يقين أيضا أن أعراق قاطنى هذا القوس (وهم حسب الجغرافيا البشرية من الفينقيين والآشور والفراعنة) هذه الاعراق تكن لهم عداءا كامنا بسبب الفارق الحضارى والثقافى الشاسع، بالإضافة إلى حتمية المبدأ الأزلى وهو الصراع الحتمى المستدام مع كل الاعراق التى وجدت فى طريق العرب يهود وفرس وإغريق وروم وأمازيج وقبط ونوبيون وأفارقة وآشور وكلدان(نصيرنا فى هذا الطرح هو ابن خلدون)، فلم يتواءم العرب مع أى عرق قبل الاسلام، أما بعد الاسلام فقد وجدوا من التخريجات الكثير لتبرير هذا الصدام مع الجميع حتى من توحدوا معهم فى العقيدة ( ولازال ابن خلدون هو مصدرنا ).

من هنا بدأ الصراع بين التيارين تيار النهضة القومى الذى استشرى فى الهلال الخصيب وأعراقة التى أشرنا إليها والمجبولة على انماط من الثقافة والرقى يشهد لهم به رصيدهم الحضارى الضارب فى التاريخ، وتيار العرب الأقحاح قبائل عدنان وقحطان سكان شبه دائرة الرمال البيضاوية المسماه بجزيرة العرب والذين تقوقعوا فى وسطها القاحل تاركين آلاف الكيلومترات من السواحل التى تحيط بهم من ثلاث نواح متحدين كل نظريات وقواعد الجغرافيا البشرية المتعارف عليها التى تستوجب استيطان الشواطئ كأولوية لتسهيل التواصل والتبادل التجارى والمعرفى والثقافى مع الآخرين، لكن قليلون هم من اكتشفوا أن السبب الرئيس فى ذلك هو هذه العوامل بالذات فقد كان الخوف من (الاختلاط) هو الهاجس المسيطر منذ فجر التاريخ (وحتى اليوم) باعتباره مكمن الخطر الداهم على عاداتهم وتقاليدهم وثقافاتهم، وعدا بعض قبائل ظفار التى تواصلت مع محيطها الجغرافى سياسة واقتصاد وثقافة انكفأت بقية القبائل على الاختباء فى قلب البادية الجدباء أما من تطلع منهم لمستقبل أفضل فكان عليه أن يغادر إلى الابد، وحتى هؤلاء عندما غادروا إلى العالم الجديد فى مصر والشام والعراق لم يتخلوا عن الهاجس نفسه.

ومنذ أوائل القرن المنصرم تبلور الصراع بين الفريقين كل يدافع باستماته عن هويته وثقافته وعرقه، فالعرب ايقنوا أن ثقافاتهم فى خطر داهم اذا ما استمر دعاة القومية الساعون لتذويب التضاريس الجغرافية والثقافية الوعرة بغرض إنشاء كيان ينهض على دعائم العدل والمساواه، ولا غرو أن يكون الداعية الاول لهذا التيار هو الشاب المسيحى ابن سوريا الكبرى أنطون سعادة، الذى رسم خريطة واضحة المعالم لكيان لو قدر له أن يرى النور لكان أمة عظيمة تملك أربعة انهار وتطل على بحرين ومحيط وظهير صحراوى شاسع وخليط فسيفسائى متفرد من الاعراق والعقائد والثروات وحدود طبيعية من خليج السويس والبحر الاحمر شرقا وجبال طوروس شمالا والخليج العربى وجبال زاجروس غربا وبحر العرب وخليج عدن جنوبا، ولو تحقق حلم الشاب الثائر لتغير وجه التاريخ فى هذه المنطقة المنكوبة وأظن أنه لم يغب عن فكره أيضا أن مستقبل التنوع الثقافى والعرقى والدينى فى هذه البقعة مهدد اذا لم يلتئم شمله تحت مظلة كيان يحتوى الجميع متساوين فى الحقوق والواجبات، لكن أعداؤه اجتمعوا عليه مع أنهم كانوا فرقاء ألداء فاليهود خشوا على خططهم فى إقامة دولة، والعرب خشوا على شبه الجزيرة من أفكار هذا (العلمانى الكافر)،

أما الفرنسيون المستعمرون فقد نسقوا للجميع كيف يقتلوه،وقتلوا أنطون سعادة كما قتلوا كل من سبقه وتلاه وكل من تجرأ على التفكير فى مستقبل أفضل لهذه البقعة المنكوبة من هذا الكوكب، ومع أننى لست من أنصار التفسير التآمرى للأحداث إلا أن أحداثا بعينها تضطرنا اضطرارا لإعادة النظر فى المبدأ نظرا لعوامل تتجمع فى الافق أحيانا وتترابط مع بعضها البعض بحيث ينتفى معها أى محاولة لإضفاء رابط العشوائية على تلك الأحداث، فعندما حاول جمال عبد الناصر إحياء نفس الفكرة ومع أول خطوة على الارض إتحد ضده نفس الاعداء وبنفس الاسباب،وفى هذه المرة لم يقتلوا شخص بل قتلوا أمه بأكملها.وضاعت آخر الفرص ضاعت الى الابد وحدث ما حذر منه انطون سعادة وتوقعه جمال عبد الناصر تقاتل سكان دائرة الرمال وقسموها بين القبائل،والامريكيون احتلوا نصفها بمنصات الصواريخ ومنصات النفط والنصف الباقى بات تحت رحمة الفرس، وتقاتل الشوام وضاعت فلسطين وضاع مابين النهرين وتشظت سوريا الكبرى ومصر سائرة على الدرب بنجاح منقطع النظير، ونجح العرب فى طرد اليهود من بلادهم وأهدوهم (هم وليس غيرهم) فلسطين وطنا وهاهم على نفس الدرب سائرون مع بقية الاعراق، قتل وذبح وتهجير لتطهير (بلاد العرب) وليضيفوا (خصلة) جديدة إلى سابق خصالهم التى سردها ابن خلدون بالتفصيل، ابن خلدون الذى عرفناه من خلال أدباء ومفكرى الهلال الخصيب: المصرى الازهرى طه حسين والسريانى اليسوعى اغناطيوس عبده والعراقى ابن هارفارد محسن مهدى وغيرهم من أبناء الهلال الذى كان يوما خصيبا تربة وثقافة وبشر وفكر ومعتقد وزحفت عليه الرمال كثبانا كثبان، طمرت مروجه الخضراء وأطفأت بريق بؤر النهضة واحدة تلو الاخرى، إحترقت بغداد واحترقت بيروت ولعلكم تشاهدون الآن ألسنة اللهب تتصاعد من دمشق والقاهرة ووداعا لهلال أنطون سعادة وداعا لهلال جمال عبد الناصر وداعا....الهلال الخصيب.