عدت قبل قليل من مركز مدينة quot;فستروسquot; السويدية في وسط البلاد والتاريخ يشير الى ظهيرة الثامن من حزيران، وهو تاريخ الاحتفال بتخرج طلاب المرحلة الثانوية. الاحتفال يجري في نفس اليوم في كل المدن.

يوم مشهود لما له من احتفاليات رائعة متميزة وبالاخص لما يحمله من معاني عميقة حيث يدخل جزء من الجيل الجديد الى الحياة العملية ويدق باب المستقبل. ويبدأ الاحتفال في الصباح الباكر في كل مدرسة ثانوية على حدة باجتماع الطلاب في ساحة المدرسة. مدير الثانوية يلقي الكلمة الاولى ومن بعده الاساتذة والبعض منهم لا يتمكن من حبس الدموع. العواطف ممزوجة بالفرح والحزن معا. فرح وبهجة بالتخرج وحزن على الافتراق بعد سنين من الالفة والمحبة.

تلامذة كل صف او شعبة يتقدمون تباعا الى المنصة وينشدون لحنا وبعدها يتقدم افراد الاسرة بهدايا من باقات الورد الى فلذات الاكباد. بعد ذلك يبدأ الاحتفال الكبير. تلاميذ كل شعبة يركبون في شاحنات اوعربات تجرها التركتورات وهي مكتظة بالشباب والشابات. كل تلك الآليات تأتي من كل صوب لتشكل بعدها موكبا يخترق مركز المدينة التي اكملت كل استعداداتها مسبقأ لهذا اليوم الاغر. لمشاهدة الصور ادخل الرابط في اسفل الصفحة.
http://www.gazire.com/cms/news-action-show-id-11881.htm

الشابات في احلى وابهى الازياء حيث تظهر كل المفاتن لتزيد المنظر رونقا وجمالا وكل واحدة منهن تبدو كالعروس في لباس بيضاء ناصعة كأرواحهن. الشباب يلبسون طواقم سوداء وتتدلى منهم ربطات العنق الزاهية.
الجميع يشتركون في ارتداء الطاقية البيضاء والخاصة بهذا اليوم لافرق فيها بين ذكر او انثى. الجميع يغني ويرقص على ظهر تلك الحافلات التي تسير الهوينى وبتؤدة بحركة انسيابية وكأنها تزحف وبأيديهم علب البيرة او الشمبانيا.

هذا اليوم ليس يوم عطلة، الحوانيت ودوائر الدولة تعمل كالمعتاد. مركز المدينة مكتظ بالآلاف يشاركون التلاميذ وذويهم البهجة والحبور. ولا حادثة واحدة مزعجة او مقلقة في هذا الجو الصاخب بالموسيقى والحافلات والحشود البشرية. ليس هناك عناصر مخابرات او بعثيين يحملون مسدساتهم على المؤخرة (على طي....هم) مستترين بها ضعفهم وذلهم وهم يتبخترون...

ليس هناك مسؤول تافه او معتوه مع جوقة حرس ومرافقة ليشق الصفوف ويأمر بوقف الموكب حتى يتمكن من اخذ صورة مع ولده، ولي العهد، الذي قام بتربيته وخلق منه انسانا مشوها نفسيا على شاكلته. ليس هناك ضباط يحملون رتبا ملونة بالنياشين المزركشة ومكتظة بالنجوم ليجلب انظارالحرائر كما هو الحال في بلداننا التعيسة بالرغم من ان كل تلك النياشين جاءت على شرف الهزائم في كل الحروب التي خاضها هؤلاء quot;الغزلانquot;.

ليس هناك شخص مصاب بالعقد النفسية ويطلق الرصاص متوهما ان فعلته تلك ستنقله من طبقة اجتماعية واطئة الى اخرى اعلى سوية. المعنى الكبير لهذا اليوم يكمن في الساعات الاولى من صباح اليوم التالي، اذ تبدأ الحياة العملية وتحمل المسؤولية كاملة.

لن يحتاج اي منهم الى الوالدين او الاقارب، فالدولة والمجتمع يتكفلون كل شيء من مسكن وراتب وتعليم وصحة.....لكل فرد دونما استثناء وضمن برامج ومشاريع تم الاعداد لها منذ سنوات. كل متخرج امامه خيارات لا حد لها. البعض يبدأ العمل في اليوم التالي ومنهم من حزم امره للدراسة في الجامعات او المدارس المهنية في الخريف ومنهم من يفشل ويتلكأ لاسباب عديدة. الا ان الجميع ودون استثناء هم في حماية الدولة والمجتمع ورعايته، اذ لا يمكن لأي انسان في السويد ان يبقى بلا سكن او طعام او رعاية طبية.

ركاب الموكب هم الذين سيستمرون في خدمة البلد وبناء مستقبله كالذين سبقوهم. سيستمرون في صناعة السيارات والطائرات ويبنون محطات الطاقة ويصدرون القاطرات السريعة الى الدنيا كلها. هم الذين سيدفعون الضرائب لتقديم الدعم الاجتماعي لبني قومهم من الذين لم يحالفهم الحظ او من اصابه المرض او العاهة.

هؤلاء سيبنون المشافي وبيوت الرعاية للعجزة ليعيشوا حياة حرة وكريمة حتى آخر نفس في حياتهم. بعض العجزة يصل بهم العمر الى مئة سنة ويرجعون اطفالا ولا يمكن ان تصدر منهم اية رائحة غير مقبولة على الاطلاق حتى يسلموا الروح وكاتب السطور شاهد على ذلك بحكم المهنة.

حسب المعاييرالمتبعة في مجتمعاتنا الشرقية يدخل الموكب ورُكابه في خانة الكفر والضلال. مفاتن الشابات الظاهرة واناقة الشباب جنبا الى جنب والخمر في الايادي يرقصون ويفرحون معا. اليس هذا قمة الكفر في مجتمعاتنا ويجب ان يُعاقبوا بالجلد؟. هل من المعقول ان تفرض عقوبات على الفرحة والبهجة ونقاء النفوس وصفائها الا عندنا؟. هل تمر مثل هذه الاحتفالات بسلام في بلداننا دون مجازر انتحارية كما في العراق و يقتل فيه الانسان على الهوية؟.

نفس الجرثومة انتقلت الآن الى سورية وتهدد بالانتشارفي كل الجهات.

نحن نذبح الاطفال ونبقر بطون النساء والعجزة عندنا تتمنى الموت الزؤام في اقرب وقت هربا من هذا الجحيم. طلابهم يدخلون جنة المستقبل وطلابنا نهيء لهم الفقر والتشرد ونرسلهم الى المقابر. ثم نقول ان الغرب quot;كافرquot; وشرقنا quot;مؤمنquot;!!.

انه مرض الانفصام الذي ليس منه شفاء...

ما أصدقquot;الكفرquot; وما أكذب quot;الايمانquot;.....طالما بقيت المعايير على ماهي عليه في مجتمعاتنا. الامر لا ينحصر في التلاميذ وآفات المجتمع فقط. اذ ان الامور اشد فظاعة في السياسة ولدى السياسيين، وهذه هي الطامة الكبرى التي ستأتينا بالكوارث والنكبات وستجعلنا نترحم على الطغاة.

قد يتسائل البعض: لماذا الكتابة وانت في جنة السويد؟.

أقول: الغربة في الجنة عذاب ولا يمكن ان ينسى الانسان موطنه ومجتمعه حتى لو كان كالجهنم.

طبيب كردي سوري
[email protected]