ليس الهدف من الحديث عن ضبط الخطاب السياسي، بأي شكل من الأشكال، تقييد منطق هذا الخطاب، وربطه حصرا وبصورة مطلقة، وبطريقة محكمة ونهائية، بواقع مادي بعينه، لا يتجاوزه ولا يتعداه إلى ما سواه من أبعاد الواقع. ذلك أن الواقع متعدد، متنوع ومتشعب بطبيعته، ولا يمكن، بالتالي، الإمساك به بصورة كاملة، وإعادته إلى أي شكل من أشكال الأحادية الاختزالية. وبطبيعة الحال، فإن في تعدد الواقع وتنوعه، غير المحدود، يشكل أرضية رحبة لتوليد أنواع كثيرة ولاستيعاب أشكال متنوعة من الخطاب والتصورات المرتبطة بهذا الواقع، وما يجري في مختلف ساحاته وميادينه وعبر مختلف مراحل التطور التي تمر منها المجتمعات الإنسانية وطبيعة التحديات التي تواجهها في مختلف المجالات في حالات السلم كما في حالات الأزمات والحروب. بل الهدف هو العمل على إبراز نوع من العلاقة الجدلية القائمة، على الدوام، بين إيقاع الواقع ومعطياته الملموسة وبين إيقاع ونبرة وأهداف الخطاب السياسي، والتي يعود إليها الفضل في تمكين هذا الخطاب من الفعل في الواقع وفق مقتضيات ما يعرف بالمنهج الجدلي القائم على مبدأ التحليل الملموس للواقع الملموس، كما يؤكد على ذلك الماركسيون الذين طلقوا التصور الدوغمائي للمنهج المادي الجدلي، والذي يحوله إلى عدد من الوصفات الجامدة الجاهزة التي لا تراعي الواقع في حركته وغناه، وتعمل على الدوام، على تطويع معطياته المادية الملموسة لمقتضيات الخطاب أو المنهج الجاهز والمتكلس، وهي محاولة غالبا ما تنتهي إلى فشل مزدوج: فشل في تغيير معطيات الواقع، وإيقاف حركة الأحداث الموضوعية من جهة، وفشل في تطوير منطق الخطاب وإثرائه بدروس التجربة الملموسة لأنه منغلق على مقولاته الضيقة، رافض للانفتاح على الحياة كما تجري في مختلف الميادين الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، من جهة أخرى.

إن هذا هو المعنى الحقيقي للواقعية السياسية، وليس أي تصور ميكانيكي جامد يعدم إمكانية الفعل في الواقع، ويتحول إلى صنو للعدمية السياسية لا غير، وعلى اعتبار أن إدراك مجمل معطيات الواقع هو الذي يمكن من وضع تصور للفعل فيها بما يخدم استراتيجية الفاعل السياسي، الرامية إلى تحويل الواقع الذي هو الهدف الأساسي لكل ممارسة سياسية. أما تجاهل تلك المعطيات بذريعة عدم الاعتراف بها لأنها تتلاءم مع انتظارات هذا أو ذاك ومع رغبات هؤلاء وأمزجة آخرين، أو ما شابه، فإنه لا يساعد على الفعل في الواقع وإنما يجعله من قبيل المستحيل، لأن الفعل مشروط بإدراك موضوع الفعل إدراكا واضحا وواعيا مرفقا بإرادة الفعل الإيجابي فيه ضمن مجمل الشروط والمحددات المحيطة به لجهة المعطيات المادية الموضوعية، كما لجهة العوامل الذاتية المرتبطة بالقوى الفاعلة في الواقع واستعداداتها التلقائية أو التي تمت مراكمتها خلال تطور تفاعلها مع معطياته عبر نجاحاتها وإخفاقاتها على السواء.

إن الاعتراف بأن للواقع إيقاعه الخاص، وأن للخطاب السياسي إيقاعه المتميز ينبغي أن يكون القاعدة الموجهة للفعل الإرادي للقوى السياسية التي تهدف إلى تغيير الواقع من خلال اعتماد خطاب إيديولوجي وسياسي مطابق. ذلك أن هذه القاعدة تسمح بالقيام بعمليات متعددة ومتداخلة في كل لحظة من لحظات الممارسة السياسية يترجمها على أرض الواقع تداخل فعل الممارسة وصنع الحدث مع التفكير فيه، لتأطيره وتوجيهه واستخلاص العبر والدروس من صيرورته.

إن أخذ هذه الأبعاد كلها بعين الاعتبار ضمن أي عملية سياسية هو الذي يسمح لتك العملية بتحقيق أهدافها في مختلف مجالاتها، أما إهمال بعضها، أو ترجيح كفة بعضها على حساب البعض الآخر، فإنه يعطل فعالية العملية السياسية، وقد يخرجها عن إطارها الصحيح، خاصة إذا استطاع خصومها التدخل القوي مستفيدين من ثغراتها لخدمة أهداف مناقضة لأهدافها.

ذلك أن لصراع الإرادات المتصارعة دورا أساسيا في تحديد وتيرة الممارسة وإيقاعها بفعل تجاذب الإستراتيجيات وتنابذها في أغلب الأحيان. ولعل هذا العامل، بحد ذاته، يعطي الدليل على أن إيقاع الواقع متعدد بحسب تعدد الدوافع والكوابح التي تجسدها أجندات القوى الفاعلة فيه ومدى تقاطعها أو تناقضها وعلاقة التنافي والتلاغي بينها.

إن مدى فعالية هذه القوى، وقدرتها على التأثير على مجرى الأحداث على أرض الواقع، يؤدي إلى بلورة خطاب سياسي يحاول استيعاب ذلك التأثير، وصياغة مقولات سياسية تروم تعزيز هذا التوجه أو عرقلة ذلك، بحسب الموقع الذي يشغله صاحب الخطاب في العمليات السياسية الجارية وفق مصالحه المحددة، وطبيعة رهاناته الخاصة التي قد تدعم رهانات قوى بعينها وتناهض في المقابل بعض القوى. الأمر الذي ينعكس في نبرة الخطاب وفحواه في آن واحد.

ولعل هذا هو ما يفسر كيف أن التحالفات التي يتم إبرامها بين مختلف القوى التي تتقاطع مصالحها وتتكامل تكتيكاتها السياسية عند مستوى من مستويات الممارسة في حقل من حقول التنافس الاجتماعي والسياسي تتقيد، في الأغلب الأعم، بما تسمح به لها طبيعة مصالحها المشتركة بحيث لا يمكن تجاوز سقف تلك المصالح حتى تصطدم بعوائق وصعوبات ليس من السهل عليها تجاوزها وتذليلها. ذلك أن القوى التي تتحرك من مواقع مقابلة غالبا ما تنتهز فرصة بروز هذا الخلاف أو ذاك في جبهة خصومها لتقويض دعائم تلك الجبهة والعمل على فرض إيقاع جديد على الأحداث بما يخدم مصالحها وتكتيكها السياسي كما أنها تعمد إلى تكييف خطابها السياسي مع مقتضيات المعطيات الجديد، والحيلولة دون استعادة الخصوم لزمام المبادرة في تحديد إيقاع الصراع السياسي، وإعادة ضبطه بما يخدم مصالحها الآنية أو البعيدة.

إن محصلة صراع الإرادات والأجندات السياسية المختلفة في لحظة من لحظات الصراع السياسي هي التي تحدد إيقاع حركية الواقع وهي التي تتحكم في اختيار مفردات الخطاب السياسي للقوى المنخرطة في الصراع بما يساعدها على التقدم في تحقيق أهدافها وضمان خدمة مصالحها إذا كانت تحتل مواقع متقدمة في حلبة الصراع، وبما يساعدها على الصمود في مواقعها ريثما تتغير المعطيات وتتاح لها الفرصة للانطلاق من مواقع الهجوم بدلا من مواقع الدفاع السلبي التي قد تضطر إلى تحصين نفسها فيها بفعل محصلة صراع القوى وموازينها في طور من أطوار التنافس والصراع.

وبقدر ما يكون الخطاب السياسي واقعيا وعقلانيا في ارتباطه بمعطيات الواقع وإدراكه لطبيعة حركيتها وإيقاعها بقدر ما يكون فعالا في التأثير على هذا الإيقاع بما يخدم الإرادة السياسية لأصحابه. أما إذا كانت مفردات هذا الخطاب تتأسس على منطق غير منطق الواقع الموضوعي والذاتي وإيقاعه فإنه يؤدي إلى نتائج عكسية لما يتم الإعلان عنه من تصورات وخطط ويحطم كل أمل في تعديل موازين القوة لفائدة أصحاب الخطاب السياسي غير المتطابق مع معطيات الواقع إلى درجة قد يتهدد معها وجودهم المادي في معادلات الصراع. ولعل هذا ما يفسر تراجع الكثير من القوى واختفاءها من المشهد السياسي لهذا المجتمع أو ذاك رغم كونها ذات تأثير وفعالية فيه في فترة من الفترات إلا أن عدم اتساق خطابها وعجزه عن إدراك طبيعة ديناميكية الواقع وإيقاع حركته قضى على قوة دفع الخطاب وحكم على القوى الحاملة له بالتراجع والاختفاء في نهاية المطاف.

كاتب وباحث مغربي