في يوم الصحافة العراقية نرفع الشكر لله الذي امد بأجلِنا الى العام الثالث والاربعين بعد احتفالنا الاول بمئوية الصحافة العراقية في عام 1969.. ولعله مقطعٌ من هذا التاريخ الجليل ان ادلي بشهادتي عن الصحفي العراقي والصحافة العراقية.. ففي العودة الى الاحتفال بمئوية الصحافة العراقية كنت يومذاك اواصل الكتابة في عمود صحفي.. بينما كانت وظيفتي مديراً للصحافة في وزارة الثقافة والاعلام.. عندها داهمتنا فكرة اقامة يوم للصحفيين اسوة بيوم العمال مثلاً، وكنت واحداً من خمسة صحفيين على رأسهم عميدُ الصحافة العراقـــية وزاهُدها( سجاد الغازي ) ونظيُره( فائق بطي ).. وضياء حسن.. وشارك اخرون ممن رحلوا ولم يتركوا لابنائهم ما يقيمون به مجلس فاتحة على ارواحهم الطاهرة.. كالصحفي الاديب عبد الوهاب الامين والصحفي المتعب دائماً محمد حامد وعبد اللطيف حبيب وهاشم النعيمي.. وهادي الانصاري.. وصادق الازدي.. وصبيح الغافقي.. ومنير رزوق.. وعبد المنعم الجادر وابراهيم اسماعيل، اماالشاعر الاديب شاذل طاقة فقد اعتبر محاولة الاحتفال هذه فرصة لتجميع الوطنيين العراقيين الذيناكلت الحروف ايامهم.. وقد ان الاوان للاعتراف بفضلهم.. وان الحياة بتعبير الجواهرينهارٌ وليلٌ يوسعان بنا اكلا..

واستقر الرأي على يوم الخامس عشر من حزيران حيث صدر العدد الاول من جريدة الزوراء التي اسسها الوالي مدحت باشا وان كان رجلُ القانون ووجهُ الشاشة طارق حرب قد انفرد قبل ايام برأي ينكر فيه هذا التاريخ لان الزوراء في رأيه لم تكن صحيفة عراقية بل تركية وانها اخذت اسم زوراء وليس الزوراء.. وردُ الانكار على المحامي حرب هو ان تاريخ العراق يتصل بموقعه واسمه الجغرافي والتاريخي وان كان ولاية عثمانية.. والا فيمكن ان ننكر ايضاً ان تكون مجلة لغة العرب عراقية.. وجريدة العراق عراقية.. لانهما صدرتا في زمن الاحتلال البريطاني للعراق بعد الحرب العالمية الاولى..

اما نزع الف لام التعريف فيخضع لقواعد اللغات التي لاتحتاج الى هذه الاداة وتعتبر الاسم معرفاً بدونهما كالفارسية و الكوردية والتركية.. وهي السنةُ التي جرى عليها مؤخراً اصحاب ومؤسسو مطبوعات مثل مجلتي دراسات عربية.. و افاق عربية.. حتى كادت الاسماء الجديدة تخلوا من أل التعريف و كذا الحال ايضاً في عناوين الكتب الصادرة حديثاً.

وبالعودة الى ايام الاعداد لهذه المناسبةاي عيد الصحافة العراقية الاول عام 1969.. فقد اكتشفنا انمراكز الوثائق والمكتبة الوطنية تخلو نهائياً من نسخة العدد الاول لجريدة الزوراء.. ولهذا لم تُنشر صورة العدد الاول حتى ايام قبيل يوم الاحتفال.. ولهذا الامر حكاية اذكرها هنا.. اذ زارني رجل كان لوالده ارشيفٌ صحفيٌ عامر واسمُ الرجل ( بديع ) ولا اتذكر اسم والده..فقدم لي النسخة بأعتباري مقرر اللجنة الوطنية للاحتفال بعيد الصحافة العراقية.. فاتصلت بالصديق حلمي شريف رئيس تحرير جريدة النور وهي الوحيدة التي كانت تصدر خارج الاعلام الحكومي حينذاك وكانت تابعة لمجموعة الاستاذ جلال طالباني.. واذكر ان الاخ بديعرفض ان يستلم اية مكافأة مقابل تزويدنا بهذه التحفة النادرة لكني عوضت له ذلك بأبراز اسمه اولاً عندما نشر خبُر العثور على النسخة مصوراً في الصفحة الاخيرة من جريدة النور ثم شرعت الصحف العراقية الاخرى بنقل صورة العدد الاول لجريدة الزوراء عنها.... وتلقيت في اليوم الثاني لوماً شديداً من قبل الوزير عبد الله سلوم السامرائي لكوني فضلت جريدة خاصة على جريدة الحزب والدولة.. ولعل هذه الحادثة تعطي مؤشراً مبكراً عن تفضيلي الصحافة الخاصة على صحافة الدولة حتى صنفت يوماً بكوني من الليبراليين حسب وجهة نظر الاخ كمال عبد الله الحديثي الذي حاول في احد الاجتماعات الحزبية وبحضورصدام حسين النيل مني باعتباري ليبرالياً خارجاً عن منهاج الاعلام انذاك.. واعتبر صدام حسين ماصدر عن كمال الحديثي شتيمةً فوجه كلامه للدكتور سعدون حمادي لكي يشرح لكمال الحديثي معنى مصطلح الليبرالية.

ومن المؤسف في تلك المناسبة اي مناسبة الاحتفال الاول بعيد الصحافة العراقية عام 1969.. ان تلاعباً حدث في تسمية اقدم صحفي عراقي مازال على قيد الحياة لتكريمه عندما اختير السياسي العراقي الشجاع محمود رامز والذي كان باعه في السياسة باعتباره من الوطنيين الاوائل اعلى مقاماً من اي دور صحفي له.. فيما اختيرت السيدة ( مريم نرمة ) من اجل تكريمها بأعتبارها اقدم صحفية عراقية تصدر مجلة نسوية ولم يكن لها دور في هذه المجلة سوى اسمها كصاحبة الامتياز.. وان هذه السيدة الجليلة لم تكن لها علاقة بالصحافة وليس لها قدرة على الكتابة ايضاً.. واذكر اني لم احصل منها بعد جهد على رسالة بهذه المناسبة قبل ظهورنا في تلفزيون بغداد ساعة تكريمها وكنت حينها اقف الى جانب وزير الثقافة والاعلام المرحوم عبد الله سلوم السامرائي.

وبرأيي فأن( ابا رامز ) سلمان الصفواني وليس محمود رامز هو الاقدم وان لم يكن هو الاسن.. فقد رافق ظهوره صحفياً ظهور المملكة العراقية عام 1921.. وظل ملتزماً بخطه القومي العربي منذ ان غادر مسقط رأسه في قرية صفوى بالقطيف حاملاً لقب سلمان القطيفي.. قبل ان ينتبه الى ان قرية صفوى اولى بأبنها فحمل اسمها.. ومنذ الاسبوع الاول لثورة 14 تموز 1958 بدأت اكتب مقالتي القومية في جريدته اليقظة التي كانت تصدر مساء كل يوم واول مقال نشرته فيها كان بعنوان( الخبز والحرية ).. وباعتقادي فأن ابعاد الصفواني عن هذا اللقب يعود لكونه ناصرياً وليس لسبب اخر.

كما ان الامر ليس صعباًلتفهم ان اقصاء اول جامعية في العراق صبيحة الشيخ داود عن لقب الصحفية الاولى كانت لكونها محسوبة على العهد الملكي.

والغريب في الصحفيين العراقيين المؤسسين منذ العهد العثماني انهم كانوا مصداقاً للنظرية القائلة بأن الحرف حرفة الفقراء.. والصحفيون في العراق قسمان.. صحفي محترف ليس له الكثير من العمق الثقافيوعنده الكثير من الحرفة والاخلاص والكدح في هذه المهنة.. واخر موغِل في عالم الثقافة والادب والشعر لكنه لايمتلك حرفة الصحفي.. وحتى هذا القسم فقد ترعرع اسمه ونمت شخصيته بين اعمدة الصحافة التي يشرف عليها الصنف الاول المعروف بعدم امتلاكه لادوات المعرفة المتوفرة عند الصنف الثاني.. وان كان بعض المثقفين يتسامى امام الصحفيين بأعتباره من طبقة اعلى فينكر لقب الصحفي اذا ما لقب به وهو ماكان ليكون شيئاً لولا الصحافة التي كانت سبباً في شهرة المثقف والسياسي والفنان والمغني.. وبقى الحال هكذا سنوات الى ان دخل عالم الصحافة مثقفون قادمون من الاحزاب كالحزب الوطني الديمقراطي والحزب الشيوعي وحزب الاستقلال ولم يكن معظم هؤلاء حرفيين قبل ان تتشكل مجموعات قادمة من اليسار الوطني وتحترف الصحافة فيصبح الصحفي المهني هو ذاته المثقف الوطني والشاعر والاديب.. وكانت اسهامات الشيوعيين هي الابرز منذ ذلك الحين.. وبرز صادق الصائغ ومحمد كامل عارف وسعود الناصري وسلوى زكو واخريات، واخرون.

اما الدولة ملكية ام جمهورية.. قاسمية ام عارفية.. بكرية ام صدامية.. فعينها كانت على الصحفيين العرب الذين تعتقد انها تقاتل بهم فاقامت مؤسسات عالية القمم وواطئة الذمم في بيروت ولندن وباريس تاركة اهل الصحافة العراقية بين المقال والاعتقال.. وشظف العيش والحاجة للسكن.. لكنهم غذوا السير فيما اموالنا تذهب هدراً لاصحاب صحف ومطبوعات سرعان ماتنقلب على الدولة في لحظة الانقلاب عليها.. منذ لك الوقت كنت ارفع شعار الاهتمام بالصحفي العراقي.. وحتى لايكون الكلام لغواً لا دليل عليه اسرد لكم حكاية مقال كتبته في العدد 554 من مجلة الف باء والصادرفي التاسع من مايس 1979.. وذلك بعد اطلاعي على عقد لوزارةالاعلام العراقية مع صحفي لبناني يقيم في اوربا لتمويل اصدار مطبوع له.. وقد تعهد العقد بنقل كذا الف نسخة من مطبوعه الى العراق عبر الخطوط الجوية العراقية مجاناً وان تعتبر جميع الاعداد المرسلة الى العراق مباعة اي بلا ( مراجيع ) وتحويل اثمانها بالعملة الصعبة وان يخصص له مبلغ 200 الف دولار سنوياً مع اعلانات حكومية لاتقل عن خمس صفحات لكل عدد.. وبالمقابل كانت حصة ابن الصحفي العراقي من تقاعد ابيه لاتتجاوز 7 دنانير شهرياً.. فحملت العقد الى صديق الدهر ( سجاد الغازي ) مع مقال افتتاحي عن هذا الموضوع اعدده المجلة بعنوان ( سوق الكلام الفاسد ).. فنصحني بتمزيق المقال حرصاً على بقائي صلة للوصل بين هذه الدولة والصحفيين امثاله.. لكنني لم انتصح.. ونشرت المقال كما كتبته.. وهو وثيقة لادانة نهج حكومي يفقر الصحفي العراقي ويجيع اطفاله فضلاً عن سياسة الكبت على حريته وارادته.. وليت الامر قد توقف عند هذه الحدود.. فأن صفوة من الصحفيين قدموا حياتهم ثمناً للدفاع عن قضايا شعبهم بعد ان سجل العراق رقماً قياسياً للبلد الذي يقتل فيه الصحفيون صبراً وعلى الجوع.. ويتعرض صحفيون في مؤسسات اعلامية بعضها تعود لغير عراقيين.. وبعضها مجهولة النسب الى طرد كيفيوبدون انذار متجاوزةُ حقوق العمل الصحفي وقوانينه المصادق عليها.. والى جانب ذلك فأن ما يدعو للفخر والدهشة ان الصحفيين العراقيين قد تقبلوا الانتقال الى الصحافة الحرة بعد العام 2003 وكأنهم كانوا يعدون انفسهم لمثل هذا اليوم فظهرت مؤسسات صحفية وتلفزيونية.. وكتابات ومهارات.. كأنها عاشت عقودها الخاوية في مرتبع الحرية والليبرالية.. واصبحت الصحافة العراقية بوسائلها المختلفة قوة اساسية توازي نظيراتها في العالم المتقدم من حيث رصد الفساد ومتابعة الفاسدين وتأشير مواقع الضعف والخلل والاهمال في النظام القائم.. وكان المفروض ان تستفيد الدولة الحالية من هذه الكشوفات المخلصة لكي تعالج بروح المشاركة وليس بأعتبارها مؤسسات للثأر والانتقام والتشهير من المؤسسة الصحفية التي تنهض بمسؤوليتها هذه.. ومن المعيب على دولة نفطية انتقلت الى مرحلة الحرية واحترام الذات ان لا توفر للصحفيين الذين دفعتهم ظروف القهر الى الهجرة سقوفاً يأون اليها ومعاشاً يسد رمق ابنائهم وقد بلغت الشيخوخة منهم مبلغاً وهم في اقاصي الدنيا وتحت وطأة الثلج والغربة في الطليعة منهم فلاح العماري والصحفي الشاعر يحيى السماوي وسعيد الربيعي الذي ينتعل خفَ المطاط مشياً على قدميه فيأتي بالخبر الذي لايصل اليهالضالعون في اسرار الدولة والمجتمع.. وليس امام هؤلاء وامامي سوى ان نمني النفس بقول شاعرنا المتنبي الخالد:

اذا ترحلت عن قوم وقد قدروا... ان لاتفارقهم فالراحلون همو

اما ( محسن حسين ) مؤسس وكالة الانباء العراقية ومديرها الفعلي.. والعصامي المجهول.. والمغترب في اخر الشيخوخة فان راتب زوجته الاعلامية نوال الوائلي بعد ربع قرن من العمل الاعلامي والصحفي ايها الرئيس الطالباني وانت العضو المؤسس في نقابة الصحفيين الاولى.. هو الان 500 دينار عراقي اي اقل من نصف دولار امريكي.. فأي عار يعرينا.. واي عيب يخجلنا نحن الذين انتمينا الى هذه الطبقة السياسية ونحن نقف عاجزين عن رفع الغبن المخزي عن رواد الصحافة العراقية.

وستخف الدهشة اذ نعلن ان الدولة العراقية التي ينفجر من ارضها ثراء النفط.. والتي تبلغ ميزانيتها مائة مليار دولار سنوياً مازالت عند قوانين تقاعدية تعطي لعميد الصحافة وشيخها الانقى والارقى ( سجاد الغازي ).. 500 دينار شهرياً اي اقل من نصف دولار..الى جانب مائة صحفي من المتوفين الذين خصص لعائلة كل منهم اقل من نصف دولار شهرياً ايضاً.. كما ان هناك 32 صحفياً على قيد الحياة كما اعلم حتى نهاية العام 2011 وهم من شيوخ الصحافة وروادها مشمولون بهذا القانون الذي لم يحركالضميرالانساني او الوطني او المهني لهذه الطبقة السياسية التي تمنح نصف دولار شهرياً لسجاد الغازي ويوسف هرمز وحميد المطبعي وحليم الاعرجي وسهيل نادر وسعيد الربيعيوجرجيس ميخائيل عبد النور و سعود الناصري وزملاء لم يتسنَ لنا استذكار اسمائهم.. وهم في اخر العمر بعد ستين عاماً من صناعة الحرف والخبر.

اقل من نصف دولار ولا حياء لهذا النظام راتباً لاكثر من مائة وثلاثين شيخاً من شيوخ الصحافة في دولة تغمض عينيها عن اختلاس وزير واحد فيها لمليار ومائتي مليون دولار.. لاينافسه في الفساد الا زميلهفي ذات الوزراة.. وفي دولة يعلن وزير كهربائها ان عشرين مليار دولار انفقت على الكهرباء والناس تشوى وجوه اطفالهم في درجة حرارة فوق مايتحمل البشر.. فاذا كان لاحد ان ينتفض في يوم الصحافة فهم بقايا من يحمل الضمير الصحفي وهم مازالوا الاكثرية.

واذا كانت وزارة الثقافة عاجزة الميزانية او عاجزة الاثر والتأثير وهي المسؤولة الان عن هذه الحقوق فعجبي للجنة الثقافة والاعلام في البرلمان كيف سكتت عن ضيم يضرب كرامة الثقافة والاعلام في الصميم ؟!.

واخيراً ففي العيد الثالث والاربعين بعد المائة ينبغي رفع الصوت لايقاف الهدر بالانفاق على مؤسسات اعلامية حكومية تصدر ونحن تحت خيمة دستور ليبرالي لايجيز للدولة استخدام اموال الناس لشراء الذمموتغيب الرأي وكأننا في نظام شمولي من تلك التي اصبحت خلف التاريخ.. كما ان سلطة الاعلام في مواجهة سلطة الدولة هي الشعار الذي ينبغي ان يطرح ويعزز بعد ان اخذ سياسيون اميونمواقع متقدمة في الدولة.. وصار مطلوباً في عرفهم ان يكون الصحفي تابعاً بصفة مستشار يبرر لهذا الجاهل ما صدر عن جهله.. ولهذا العاق ما صدر من عقوقه تجاه الناس والبلد.. وامامنا في الختام نصٌ جواهريٌ يوجز دور صانعي الحروف حينما قالفي سلطة المثقف..

نحن الجبابرةُ الاعلون يَرَهَبُنا

اذ يُرهق الناس فرعونٌ وجبارُ

عن كل حرفٍ دفعنا فديةً فدحت

لو كان للحقِ ميزانٌ واسعارُ


حسن العلوي:

العضو المؤسس لنقابة الصحفيين العراقيين

ومقرر لجنة الاحتفال الاول بمئوية الصحافة العراقية عام 1969