منذ ما يقارب الـ16 شهراً، لا يزال اللامعلوم أو المجهول أو اللامستقبل هو العنوان الأبرز للأزمة السورية. هي، خصوصاً بعد تحوّل مسارها، على المستويين الإقليمي والدولي، من صراعٍ في سوريا إلى صراعٍ عليها، لا تكاد تخرج من نفق دولي أو إقليمي أو سوري معطّل، حتى تدخل في نفق آخر أكثر تعطيلاً.

quot;التعطيلquot; يكاد يكون عنوان كل المؤتمرات الدولية والإقليمية، التي عقدت حتى الآن بشأن الأزمة السورية، بما فيها تلك التي حملت إسم quot;أصدقاء الشعب السوريquot;. على الأرض لم تأتِ هذه المؤتمرات واللقاءات بأيّ جديد من شأنه يدفع الإستعصاء السوري نحو بعضٍ حلّ، أو بعض أمل. كلّ الخطط والمبادرات، سواء العربية منها أو الأممية، التي طُرحت حتى الآن لحل الأزمة السورية ومعالجتها بquot;السياسة التي هي أحسنquot;، فشلت فشلاً ذريعاً.

آخر هذا الفشل على المنحى الأممي، انتهى في quot;نفق جينفquot; الذي اتفق فيه quot;أصدقاء الشعب السوريquot; مع quot;أعدائهquot;، على كلّ شيء إلا على سوريا.
هم، اتفقوا على quot;سوريا انتقاليةquot;، لكنهم لم يتفقوا على quot;ما قبلهاquot;، وكيف يمكن للشعب السوري أن ينتقل من quot;سوريا الأسدquot; إلى ما بعدها.
هم، اتفقوا على quot;سوريا المشكلةquot;، لكنهم لم يتفقوا على quot;سوريا الحلquot;.
هم، اتفقوا على quot;سوريا الضحيةquot;، لكنهم لم يتفقوا على quot;سوريا الجلادquot;.
هم، اتفقوا على quot;سوريا الوحدة الوطنيةquot; لكنهم لم يتفقوا على كيفية أو إمكانية جمع المعارضة والنظام في quot;وحدة وطنيةquot; تكاد تكون أكثر من مستحيلة.
هم، اتفقوا على quot;ضرورة تجنب الحرب السورية السوريةquot;، لكنهم لم يتفقوا على نزع فتيل هذه الحرب، وتنحية سيدها الأول بشار الأسد ونظامه.
هم، اتفقوا على الجريمة في سوريا، لكنهم لم يتفقوا على تسمية الجاني والمجني عليه، الجلاد والضحية، القاتل والمقتول.
هم، اتفقوا على العموميات، لكنهم اختلفوا على التفاصيل، التي يكمن الشيطان كعادته فيها.
هم اتفقوا على quot;خارطة سورياquot;، لكنهم لم يتفقوا على الطريق إليها.

ككلّ quot;الأنفاقquot; الأممية التي دخلتها الأزمة السورية حتى الآن، يمكن إضافة quot; نفق جينفquot;، كنفق دولي آخر إلى قائمة الفشل الأممي، التي بدأت بإسطانبول ولن تنتهي في جينف.

الفشلُ لا يزال هو العنوان الأبرز لكلّ المبادرات والخطط واللقاءات والمؤتمرات التي عّقدت بخصوص الأزمة السورية، التي لا تكاد تخرج من عقدة، حتى تدخل أخرى أكثر تعقيداً.
هذا الفشل يكاد يكون متساوياً بين الجميع، فمثلما للخارج الأممي والإقليمي والعربي فيه نصيب، كذا للداخل السوري، بمختلف معارضاته، فيه نصيب.
الكلّ فشل حتى الآن في سوريا.
الخارج، كالداخل، فشل.
العالم فشل، والعرب فشلوا، والسوريون لا يزالون يذهبون من فشلٍ إلى فشل.

بالأمس خرجت سوريا من quot;نفق جينفquot;، لتدخل اليوم إلى quot;نفق القاهرةquot;.
مؤتمر أو quot;نفقquot; القاهرة الذي بدأ أعماله أمس برعاية الجامعة العربية لquot;توحيدquot; المعارضة السورية، لن يأتِ، على ما أذهب، بأي جديد، لا على صعيد quot;توحيدquot; المعارضة، ولا على صعيد رسم ملامح سوريا ما بعد الأسد، ولا على مستوى quot;وثيقة العهد الوطنيquot;، كما هو مقرر في جدول الأعمال الذي أعدته اللجنة التحضيرية.

العلامة الأبرز لهذا المؤتمر/ النفق، هو أنه سيبحث في رسم ملامح quot;سوريا ما بعد الأسدquot;، في الوقت الذي لا اتفاق بين هذه المعارضات، على quot;سوريا الأسدquot;. لا اتفاق بين هذه المعارضات على الأسد بإعتباره أساً للمشكلة السورية وأساسها. ففي الوقت الذي تصنفه بعضٌ من هذه المعارضات في خانة quot;القاتل الذي لا حوار معهquot;، تصنفه معارضات أخرى في خانة quot;المحاور الضروريquot;، بإعتباره quot;جزءاً من الحل أكثر من أن يكون جزءاً من المشكلةquot;. المؤتمر سيناقش على جدول أعماله، ملامح quot;سوريا الإنتقاليةquot; وquot;حكومتها الإنتقاليةquot; وquot;عدالتها الإنتقاليةquot; وquot;وثيقة عهدها الوطني الإنتقاليةquot;، دون التطرق إلى سبل وطرق الخلاص من quot;سوريا الأسدquot; الراهنة. وهو الأمر الذي يعني تكرار ما تمّ الإتفاق عليه في quot;نفق جينفquot; أممياً، واجتراره في quot;نفق القاهرةquot; سورياً وعربياً.

العملية بإختصار، هي عبارة عن نقل للقضية السورية من تحت quot;دلفquot; جينف، إلى تحت quot;مزرابquot; القاهرة.

لا أريد ههنا استباق الأمور، أو إطلاق quot;حكم مسبقquot;، كما قد يظنن البعض، وإنما quot;مكتوبquot; المؤتمر/ النفق واضحٌ من عنوانه.

جميل أن تجتمع حوالي 250 شخصية معارضة تمثل الموزاييك السوري بمختلف طوائفه وقومياته وتياراته وأحزابه، تحت سقف واحد، للعبور من ثمّ على جسر quot;معارضة موحدةquot; إلى سوريا موحدة. هذا ليس هدف مطلوب، في الداخل السوري وخارجه فحسب، وأنما هو مسعى ضروري وملحّ أيضاً. لكن الواقع شيء، وما يتمناه المرء هو شيء آخر.

رياح العالم تجري بما لا تشتهي سفن الثورة السورية. هذه باتت حقيقة مفروغ منها.

لا شكّ أن هذا المؤتمر يشكل quot;خطوة نوعيةquot;، هي الأولى من نوعها منذ بدء الثورة السورية في 15 آذار 2011، لquot;توحيدquot; صفوف كافة أطياف المعارضة السورية، لكن الطريق إلى هذه quot;الوحدة المفترضةquot; لا يزال محفوفاً بالكثير من الفرقة والفرقة المضادة، سيما وأنّ ما يفرق المجتمع الدولي بشأن سوريا، يكاد يكون هو ذاته الذي يفرّق بين الفرقاء السوريين.

ما يفرّق الغرب الأوروبي وأميركا ودول الخليج العربي وتركيا من جهة، وروسيا والصين والعراق وإيران من جهة أخرى، هو ذاته ما يفرّق بين المعارضات السورية.

أولى إشارات فشل هذا المؤتمر/ النفق المنعقد الآن في القاهرة، أتت من الداخل السوري، وتحديداً من الحراك الثوري، الممثل بquot;الهيئة العامة للثورة السوريةquot;، وجناحها العسكري الممثل بquot;الجيش السوري الحرquot;. الأولى، هاجمت المؤتمر واصفةً إياه بأنه quot;امتدادٌ لمؤتمر جينفquot;، أما قيادة الثاني فقاطعت المؤتمر واصفةً إياه بquot;المؤامرةquot;. بسام جعارة الناطق بإسم quot;الهيئة العامة للثورة السورية في أوروباquot;، ذهب في حواره أمس على قناة العربية أبعد من ذلك، قائلاً: quot;أنّ الجلوس مع المعارضة التي صنعها النظام في دوائر استخبارته هو خيانةquot;. جعارة قال بحضور رئيس quot;المجلس الوطني السوريquot; د. عبد الباسط سيدا، بكلّ وضوح، أن ما يجري في القاهرة هو quot;مؤامرةquot; على الشعب السوري وثورته، ما يعكس خلافاً كبيراً بين quot;المجلس الوطني السوريquot; وقوى الحراك الثوري في الداخل، وعلى رأسها quot;الجيش السوري الحرّquot;. جعارة أكدّ بلهجةٍ لم تخلُ من التهديد، بأنّ quot;الجيش السوري الحر سيقوم خلال الأيام القريبة القادمة بتشكيل مكتب سياسي لهquot;، ما يعني سحب الإعتراف من quot;المجلس الوطني السوريquot;، بإعتباره quot;ممثلاً سياسياًquot; للحراك الثوري في الداخل. الجمعة القادمة، ستحمل معها الكثير من الرسائل، للداخل والخارج، وستضع في هذا المنحى، الكثير من النقاط على الكثير من الحروف.

الخلاف بين quot;الجيش السوري الحرّquot; وquot;المجلس الوطني السوريquot;، هو خلاف قديم جديد. الخلاف الأساس هو على القيادة؛ قيادة سوريا. quot;الحرّquot; لا يقبل لquot;معارضة الفنادقquot; أن تقود سوريا على حساب دماء quot;معارضة الخنادقquot;، وهو ما أعلنته قيادته أكثر من مرّة، وفي أكثر من مناسبة. quot;الحرّquot; لن يقبل لا من quot;المجلس الوطني السوريquot; ولا من غيره من المعارضات السورية، لا سيما تلك المقيمة في quot;حريرquot; الخارج، أن ترسم له سياساته، أو تقوده سياسياً في المحافل الدولبة. السياسة من وجهة نظر، أهل الثورة، هي أن تضحي أو تموت أكثر، لا أن تفكّر أو تسيّس اكثر. السياسة، وفقاً لمنطق شعب الثورة، هي أن تكون في الميدان، وأن تصنع الميدان، وأن تموت في الميدان، وأن تقيم وتقعد الميدان، متى وأنى وأينما تشاء. السياسة، وفقاً لشرعية الثوار، هي أن تكون على الأرض، وأن تموت لأجل الأرض. من يُقتل على الأرض أكثر، وفقاً لشرع أهل الثورة، هو الأولى بإدارة شئونها، وشئون البلاد والعباد عليها.

من هنا، لا أعتقد بأنّ quot;الجيش السوري الحرّquot; الذي يسيطر عملياً على الأرض ويقودها في سوريا، سيقبل بالعمل تحت مظلة quot;المجلس الوطني السوريquot;، بإعتباره quot;مظلته السياسيةquot; ومصدر قراراته. قد يحصل اتفاقٌ هنا وتفاهمٌ هناك، أو يتم التأسيس لquot;تنسيقquot; بين الطرفين في quot;مكتبٍquot; وهنا ودائرةٍ هناك، لكنّ القول الفصل على الأرض، يبقى للقابض على زمام الأمور عليها، والمتحكم بها، أي لquot;جيش الثورةquot;.

ما حدث ولا يزال يحدث في ليبيبا، حيث صوت السلاح لا يزال يعلو على صوت السياسة، سيحدث في سوريا أيضاً. سوريا التي اختار لها الأسد أن تذهب إلى السلاح، سيعلو فيها صوت السلاح والمسلحين فوق كلّ صوتٍ آخر.

سوريا الآن، هي أبعد ما تكون عن quot;الحلول السياسيةquot; وحسابات السياسيين. كلّ الحساب الآن في سوريا هو حساب السلاح وحساب العسكر.
سوريا كلها الان تتعسكر: النظام متعسكر، والثورة تتعسكر، والشعب يتعسكر، والطوائف تتعسكر. الكلّ بات يتعسكر الآن ضد الكلّ. الكلّ سيتسلح ضد الكلّ. الكلّ سيحسب حساباً للكل.
سوريا كلها ذاهبةٌ إلى السلاح، شاء من شاء وأبى من أبى. السياسة ما عاد لها أيّ محلّ من الإعراب في جملة العسكرة السورية.
سوريا كلها تحوّلت إلى نفق؛ نفقٌ لن يخرج منه أحد، إلا خاسراً.

كلّ شيءٍ فيها نفق: النظام نفق، والمعارضة نفق، والجار نفق، والعالم كله من سوريا إلى سوريا، صار إلى نفق.
سوريا، آلَت إلى نفقٌ مظلم مستمر، عابر للحدود، ممتد من العالم إلى العالم.

[email protected]