رغم عدم الشرعية الدستورية لمحمد مرسي كرئيس للجمهورية هو وحزبه وجماعته المحظورة، نظراً لمخالفة الجميع للبند الرابع من الإعلان الدستوري والمادة الخامسة من الدستور السابق، والتي تحظر العمل السياسي وقيام أحزاب على أساس ديني، إلا أنه إلى يتم قضائياً إقرار هذه الحقائق بحكم بات ونهائي، فإن هناك نوعاً آخر من الشرعية الموضوعية، هي شرعية إرادة الشعب، والتي تحتم على جميع مكونات مصر الوطن باختلاف انتماءاتها الدينية والاجتماعية وتوجهاتها السياسية الاعتراف بأن عموم الشعب قد قال كلمته الواجبة الاحترام، واختار د. محمد مرسي ممثل تيار الإسلام السياسي رئيساً للجمهورية، ففي حالة محمد مرسي بالذات لم يكن التأييد أو حتى الرفض مرتبطاً بشخص المرشح، وإنما بالجماعة التي قدمته للناس بصفته ممثلاً لها، وهكذا سلم الشعب المصري قياده لمن تعهدوا بالسير للخلف، ليعودوا بمصر إلى نظم وقوانين أربعة عشر قرناً خلت، مفارقين ومعادين ومواجهين للعصر وقيمه ونظمه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية، فلا يتتبقى لنا والوضع هكذا غير سؤال معلق، عن مدى قدرة من أمسكوا بمصر بين أنيابهم على الفتك بالفريسة وابتلاع لحمها وهضمه، أو بالأصح مدى قابلية الشعب المصري العملية، وقابلية مؤسسات دولته للخنوع أو الانصياع لعمليات الهدم وإعادة التشكيل على الصورة البدائية التي يرومها هؤلاء. . هل ستكون مصر كالصلصال الطيع في يد طيور الظلام والجهالة، أم ستستطيع الصمود حتى تتمكن من استشراق شمس للحرية والحداثة والحضارة؟
على الجميع إذن احترام الشرعية المستمدة من إرادة الشعب، حتى وإن كنا لا نستطيع احترام خياره في ذاته، وعلينا أن نحاول بالطرق الشرعية دفع خطره ووباله عن الأمة المصرية، فدولة عميقة كالدولة المصرية التي ترتبط بمؤسساتها حياة ما يقارب تسعين مليوناً من البشر لا تحتمل ثورة إلى حد الفوضى تتحلل من الشرعية القانونية، ولقد كان إنجازاً للشعب المصري أن لم يندفع في quot;هوجة 25 ينايرquot; إلى حد الفوضى، فرغم ما حدث بالفعل من تجاوزات خطيرة، إلا أنه ظل هناك التزاماً بحد أدنى من الشرعية حفظ حتى الآن للبلاد مقدراتها، وينبغي على كافة المكونات المصرية الالتزام بالشرعية مهما كانت نظرتنا للنظام الجديد، وهذا يعني ضمناً وجود معارضة قوية تستخدم جميع الآليات الديموقراطية، بما فيها التظاهر والاعتصام والإضراب وحتى العصيان المدني.
نأتي بعد هذا إلى ردود أفعال واحد من أهم مكونات الشعب المصري التي وقفت معارضة لمحمد مرسي ولكل ما يمثله، نعني الأقباط الذين هم بلا شك المكون الأكثر تضرراً من نظام الحكم الديني الإسلامي، والذي يتأسس على الانتماء الديني، وليس على ملكية الوطن لجميع أبنائه على قدم المساواة.
أعارض شخصياً وبكل شدة تصوير قضية الوقوع في براثن دولة دينية إسلامية وكأنها مشكلة أقلية قبطية في مواجهة رغبة وإرادة أغلبية، فالأقلية القبطية بخلاف سائر الأقليات في دول أخرى لا مطالب خاصة لها، فهي لا تنازع الأغلبية في السيطرة على مناطق جغرافية محددة، ولا تنازعها في كيفية اقتسام ثروات الوطن، كما أنها عرقياً غير منفصلة عن سائر مكونات الوطن، وبالتالي فالتصور الصحيح لقضية الأقباط يبدأ من نقطة أن الأقباط أقلية بلا مطالب خاصة، من حيث أنهم لا يريدون تميزاً من أي نوع، بل كل ما يرجونه هو الذوبان في بوتقة الوطنية، دون عدوان أو انتهاك لخصوصيتهم الدينية، ودون أن يترتب على تلك الخصوصية نتائج تمييزية سلبية في الساحة الوطنية السياسية والاجتماعية.
القضية بالأساس هي مشكلة الحرية والحداثة والتحضر، وهي أمور أظن أن العديد من مكونات المجتمع تسبق الأقباط (بصفتهم الدينية) بصفة عامة في السعي إليها، هذا لا ينفي أن مشكلة الأقباط مع نظام الحكم الذي تستهدفه جماعة الإخوان المسلمين المحظورة وممثلها في رئاسة الجمهورية ستكون مضاعفة، فعلاوة على معاناة الأقباط مع سائر المواطنين المصريين مع نظام حكم يجذبهم للخلف حضارياً وتشريعياً وثقافياً، تأتي معاناتهم كمسيحيين من الوقوع تحت نظم وقوانين دينية تحوي الكثير مما يضعهم في مرتبة دونية، ويجعل منهم في أحسن الأحوال أهل ذمة، لهم ما للضيوف من رعاية، في ظل أحكام ورؤى تضعهم وفق تفسيرات الكثيرين في خانة quot;الكفارquot;، الذين هم وفق تعريف المصطلح معادون لله ولرسوله!!. . لا يعتد هنا بأي تصريحات تطمينية مؤقتة، لن تصمد إلا لحين يتمكن الذئب باستقرار الفريسة بين فكيه وفي متناول أنيابه.
بصفة عامة يستشعر الكثير من المصريين الآن ضياع الوطن، وهم يشهدون اختطافه من قبل تيار أهم ما يميزه مفارقة العصر وحقائق الواقع، واستعداده لأن يذهب في سبيل تحقيق رؤاه إلى إهدار الدماء باسم الجهاد في سبيل الله، ذلك ما يقوله تاريخ وحاضر هؤلاء، وما ينفلت الآن من تصريحات منهم، رغم اعتمادهم التقية والإيهام في القول، ولاشك أن هذا الشعور بضياع الوطن يبلغ مدى أبعد لدى الأقباط، وربما يزيد أيضاً لدى من نسميهم أقباط المهجر، فالحياة داخل مصر تضفي على الأقباط بعض الاطمئنان المستمد من حالة التعايش المصرية التي لم تتأثر إلا قليلاً حتى الآن، وإن كانت إشارات الكراهية والتجرؤ على استهداف الأقباط قد تفاقمت بعد نجاح مرشح الإخوان في الوصول إلى رئاسة الجمهورية، مما يدفعنا إلى توقع تدهور متسارع لحالة ما دأبنا رغم الكوارث العديدة على تسميته quot;وحدة وطنيةquot;، في حين أن هؤلاء الذين في المهجر لا تصلهم عن بلادهم وأهاليهم غير ما تتداوله الفضائيات التليفزيونية ووسائل الإعلام والإنترنت، ولا أظن أن هذه كلها تتداول غير كل ما هو سلبي أو مفجع وبشع، وما أكثر هذه النوعية من الأخبار على أرض الواقع بالفعل، وهو ما يقتضي تفهماً من جميع الأطراف إذا ما وجدوا أن نظرة أقباط المهجر لمستقبل بلادهم وأهاليهم أكثر سوداوية من والواقع الذي نراه جميعاً قاتماً بالفعل!!
نتوقع الآن أن تلعب الكنيسة ذات الدور الذي تعودت على لعبه طوال أربعة عشر قرناً خلت، وهي أن تفتح أحضانها للأقباط بصفتها وطناً بديلاً سماوياً، وربما نرى بعضاً من شباب الأقباط الذين كانوا قد غادروا سياسياً قوقعة الكنيسة يعودون إليها، بعد أن كانوا قد أدوا دورهم بالقدر الذي يطيقونه في الثورة وفي التصويت في الانتخابات، بعد أن انتهت الثورة وديموقراطيتها بما يحق لهم اعتباره كارثة. . وسيجد هؤلاء وغيرهم خطاب الكنيسة حاضراً، وكأنه حقن مورفين يحتاجها المريض الذي يصرخ من الوجع، يحقنها لهم الكهنة الماهرون في مهمة التخدير والتغييب عن الوعي، ليعيش المخدرون في عوالم خاصة من صنع الكنيسة، يرونها عوالم نورانية منبتة الصلة بالعالم الملوث الذي يدعوهم خطاب الكنيسة بإلحاح ألا يحبونه وكل ما فيه، لأن لهم هناك في الأعالي وطناً سماوياً معداً لهم من قبل أبيهم الذي في السموات، ولا غرابة والحالة هذه أن نجد الأقباط يستعذبون الألم ومشاعر الاضطهاد، معتبرينها صليبهم الذي عليهم حمله حتى يصلوا لملكوت السموات، أي الجنة في الخطاب المسيحي، وهي حالة مازوشية قبطية أرثوذكسية صميمة.
يحق للمراقبين الآن وليس للأقباط وحدهم توقع تزايد حالات الاعتداءات الهمجية على الأقباط في كافة قرى ونجوع مصر بل ومدنها أيضاً، لنشهد تبعاً لهذا تزايد احتفالات تبويس اللحى بين رموز المحرضين على الفتنة ذاتهم وبين أساقفة وكهنة الكنيسة، هؤلاء المستعدون دوماً وعبر التاريخ المصري المديد لأداء دور من يقنع الذبيحة ألا تصدر أصواتاً تزعج الجزار وهو يذبحها، وهو ذات ما كان يحدث في عصر مبارك، وإن كان حجم المتوقع الآن من الاعتداءات التي نتوقع تلقيبها quot;بالتجاوزات الفرديةquot; سوف يفوق بمراحل عديدة كل ما كان، كما لن نعدم بالتأكيد من يتنطع وينسبها للفلول أو أمن الدولة، بل وحدث أشد وقاحة من هذا قبل الثورة بخمسة وعشرين يوماً في مذبحة كنيسة القديسين، حين تفضل علينا أستاذ علوم سياسية مرموق هو د. حسن نافعة بنسبة المذبحة إلى أقباط المهجر!!
أيضاً جماعة quot;الأمر بالمعروف والنهي عن المنكرquot; التي بدأت تسعى وتقتل في شوارع المدن المصرية مع التولي الميمون لمحمد مرسي رئاسة الجمهورية، هذه الأقباط وكنائسهم ومحال أرزاقهم ستكون بالنسبة لها هو المنكر المجسد، ومن غير المعقول أن يتتبع هؤلاء quot;الفتية الذين آمنوا بربهمquot; توافه المنكر في الشوارع، ويتركون المنكر الأكبر الذي يمثله الأقباط!!
رغم أن استعادة الوطن من الضياع وإنقاذه من الكارثة التي حلت به مسئولية جميع المصريين باختلاف انتماءاتهم الدينية، إلا أن الإنصاف يقتضي أن نقر بأن من أغرق المركب يتحمل المسئولية الأكبر في إعادة تعويمها، بما يعني أن الأقباط المطلوب منهم عدم الانسحاب ثانية إلى داخل الكنيسة لغير دواعي الصلاة وعباد الله، ينتظرون مشاركة ومساهمة إخوة الوطن المسلمين بالسهم الأكبر في التحكم في مسار سفينة الوطن، وإعادتها للطريق الصحيح، طريق الحضارة والحداثة والحرية. . خلال رحلة استعادة الوطن التي نتوقع أن تكون طويلة ومريرة لا يجب على الأقباط النزوع إلى إنشاء كيانات سياسية منفصلة لتقاوم التيارات الظلامية وتدفع البلاء عن الأقباط، فهذا التوجه هو عين ما يشتهيه طيور الظلام، أن يتم تقسيم الوطن على أساس ديني، فإنشاء مثل هذه الكيانات الطائفية حتى وإن كانت سامية الغرض والمبادئ، إلا أنها مساوية أو أخطر على الوطن وعلى الأقباط من حالة مقابلة هي الانكفاء والتقوقع داخل الكنيسة. . الحل هو العمل الوطني المشترك بين كل من يحمل بطاقة هوية مصرية لكي ننقذ مصر الوطن من الضياع.
هل ضاعت مصر بالفعل أو على وشك الضياع؟. . سؤال ستجيب عنه الأيام وحدها، وإن كنت شخصياً أميل إلى الاعتقاد أن مصر أقوى وأعظم من أن تضيع على أيدي أمثال هؤلاء الذين يلوحون لها براياتهم السوداء!!
الولايات المتحدة- نيوجرسي
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات