تشعر تركيا ولاسيما وزير خارجيتها أحمد داود أوغلو بخيبة أمل كبيرة من الموقف الأمريكي في مجلس الأمن الدولي بشأن الطلب الذي تقدمت به أنقرة رسميا لإقامة منطقة عازلة داخل الأراضي السورية للاجئين السوريين وتأمين الحماية والمساعدات اللازمة لهم بإشراف دولي. فوزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون التي زارت أنقرة قبل أسابيع قليلة وأعلنت من هناك عن حلول موعد النظر في إقامة منطقة آمنة لم تحضر جلسة مجلس الأمن إلى جانب نظيريها الروسي والصيني، بل ان المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية فيكتوريا نولاند استبقت الاجتماع بالإعلان عن ان بلادها تفضل دعم تركيا ومساعدتها واستيعابها للاجئين السوريين بدلا من الاقتراح بإقامة منطقة آمنة داخل الأراضي السورية، وقد دفع مجمل الموقف الأمريكي هذا بالوزير أوغلو إلى حالة من الاحباط الشديد عندما قال في كلمته بالمجلس إنه (من الواضح أنني كنت مخطئا في تقديراتي) معربا عن أسفه (لإهدار فرصة تاريخية) حسب قوله. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هو هل الرهان التركي على الموقف الأمريكي بخصوص الأزمة السورية كان مجرد سوء تقدير أم أنه اختلاف في الأولويات والاستراتيجيات؟
في الواقع، تبدو تركيا التي قطعت علاقاتها مع النظام السوري واحتصنت المعارضة السورية السياسية والعسكرية في محنة خيارات بخصوص الأزمة السورية، فهي في طلبها إقامة منطقة عازلة انطلقت من قاعدة الجوار الجغرافي مع سوريا على أساس انها قادرة على تطبيق النموذج الكوسوفي داخل الأراضي السورية، أي التحرك من خارج مجلس الأمن الدولي، فيما الإدارة الأمريكية في غير هذا الوارد، وقد كان كلام رئيس هيئة الأركان المشتركة للجيش الأمريكي الجنرال مارتن ديمبسي واضحا، عندما أعلن من لندن: (ان المقارنة المتكررة للحالة السورية مع ليبيا حيث تم فرض حظر طيران بموجب قرار من منظمة الأمم المتحدة هي في أحسن الأحوال مصدر للتسلية)، ومعروف ان إقامة منطقة آمنة تتطلب قرارا من الحلف الأطلسي بالتدخل العسكري وحمايتها بالوسائل العسكرية اللازمة فيما يعرف الجميع ان هذا مثل هذا القرار غير متوفر، إذ ان قرار الحلف الأطلسي في النهاية هو قرار أمريكي، والإدارة الأمريكية ليست لديها أولوية في هذه المرحلة سوى الانتخابات الرئاسية التي اشتدت فيها المنافسة بين الديمقراطيين والجمهوريين خاصة بعد انتخاب ميت رومني مرشحا للجمهوريين، وبارك أوباما غير مستعد لاتخاذ أي قرار قد يؤثر على حظوظه في ولاية رئاسية ثانية، فيما الدعم الفرنسي ndash; البريطاني ليس له قيمة عملية في معادلة إصدار قرار دولي بهذا الخصوص. وعليه فان المسعى التركي يبدو وكأنه نوع من سوء تقدير للموقف الأمريكي الذي ينطلق في حيثته للأزمة السورية من حسابات مختلفة عن تلك التركية. دون شك، واشنطن تريد إسقاط النظام السوري لكن وفقا لحساباتها الخاصة، فهي تفكر بمرحلة ما بعد نظام الأسد فيما تبدو تركيا في عجلة من أمرها لإسقاط النظام، واشنطن تخشى من وصول الجماعات الإسلامية المتشددة للسلطة في بلد مجاور لإسرائيل فيما تركيا تدعم هذه الجماعات ولاسيما حركة الأخوان المسلمين والجيش الحر، واشنطن والاطلسي لهما حساباتهما الخاصة من قدرات النظام السوري وأسلحته فيما حكومة حزب العدالة والتنمية باتت تخشى من تداعيات داخلية إذا طالت الأزمة أكثر أو نجح النظام في القضاء علىى المعارضة، واشنطن ليست لديها مشكلة في ان يقضي النظام على الجماعات الجهادية المسلحة وفي الوقت نفسه ان تقضي هذه الجماعات على قوة النظام ، فيما تركيا تخشى من بقاء النظام وانتقال الأزمة إلى الداخل التركي لأسباب عرقية وطائفية وسياسية، واشنطن لا تبدو مستعجلة طالما ان كل ما يجري على الأرض السورية يحقق أهدافها فيما أنقرة تعيش أصعب اللحظات والخيارات، واشنطن ليست لديها مشكلة في الكباش الحاصل مع روسيا والصين في مجلس الأمن وخارجه فيما الدبلوماسية التركية في الشرق الأوسط تخسر رصيدها وتحس أنها باتت في ورطة، خاصة بعد ان انتهت نظرية صفر المشكلات إلى عمق المشكلات. في الواقع، ما جرى في مجلس الأمن الدولي شكل ضربة قوية للمسعى التركي بإقامة منطقة آمنة ولمجمل السياسة التركية إزاء الأزمة السورية، ويبدو ان الرسالة وصلت إلى رجب طيب اردوغان عندما أعلن عقب الاجتماع ان لا منطقة عازلة دون قرار دولي، ولعل اردوغان عندما أعلن ذلك كان يفكر بعمق بالتداعيات والمخاوف والردود، فمن جهة تدرك تركيا أن أي اجراء فردي أو خارج الاجماع الدولي تجاه سوريا سيجابه بردود فعل قوية من روسيا وإيران التي تقول ان أمن سوريا من أمنها، ومن جهة ثانية فان النظام السوري الذي يعيش معركة حياة أو موت لن يقف مكتوف الأيدي بما يعني احتمال تفجر حرب إقليمية في المنطقة ستطال الداخل التركي نفسه، خاصة وان القنبلة الكردية بدأت تشتعل فيه بقوة ، فضلا عن زيادة حدة الإنقسام في الداخل التركي على خلفية تعاظم رفض المعارضة التركية الرسمية والشعبية (العلويون) والكردية (حزب العمال الكردستاني) لموقف حكومة حزب العدالة والتنمية من الأزمة السورية، فضلا عن ما خلفتها هذه الأزمة من تداعيات اقتصادية ومعيشية ولاسيما في المناطق التركية الحدودية مع سوريا حيث تراجع مستوى حركة التجارة إلى الصفر بعد ان انعشت الاقتصاد التركي في السنوات الأخيرة. تركيا تشعر بخيبة أمل عميقة من الموقف الأمريكي إزاء الأزمة السورية،وهي في خيبتها هذه تبدو في محنة خيارات ومخاوف حقيقية من انتقال الأزمة إلى داخلها، فيما للإدارة الأمريكية حسابات مختلفة تماما وهي لا تفكر هذه الأيام سوى بمعركة الانتخابات وفي جميع الأحوال لا تتمنى ان تتحول الساحة السورية إلى منطقة زاخرة بالتنظيميات الجهادية والقاعدة وغيرها، وعليه فان بقاء الوضع هكذا يناسبها أكثر، ليبقى السؤال هل سيخفت صوت اردوغان بعد اليوم؟ سؤال ينبثق من مرارة الخيبة التركية إزاء الموقف الأمريكي واستراتيجيته من الأزمة السورية.