طوت تطورات الأحداث في سورية قضايا الصراع الأساسية، من إنتصار ثورة وإسقاط نظام أو تنحي رأسه فتلك أمور فات أوانها، والأخضر الإبراهيمي، الذي يتجول، سائحاً، ومتسولاً أفكار الحلول، تأخر عن القدوم إلى سورية شهور عدة، ثمة وقائع على الأرض ترسخ هذه المعطيات، فالنظام يقترب من الضغط على زناد أسلحته الكيماوية، ليس بغرض القتل وحدهrsquo; حيث لم يعد هذا الفعل هواية بل أصبح ضرورة، لرسم حدود وخطوط التحالفات وترسيخ التوازنات، في طريق رحلته الأخيرة إلى الكانتون.
هذه الحقيقة،( المحايثة للواقع)، تجعل المراهنة على بقاء سورية دولة موحدة أمر من ضرب الخيال، فالمكونات الأساسية للمجتمع السوري (الطوائف والإثنيات) انزاحت كثيرا صوب التقسيم، لم يعد واجب الحفاظ على الوحدة الوطنية كافياً للتمويه على هذا الواقع. وأمام هذه المعادلة المعقدة، يظهر الحراك الدولي وكأنه فصل متمم للمشهد المأساوي في سورية، بل واحدة من أليات الصراع المكملة لسياق الإستراتيجيات الدولية، المتضاربة، بشأن مستقبل سورية والمنطقة عموماً.
في التفاصيل والوقائع، الحاكمة، في الحيز السوري، تحدد خطوط الدمار والتهجير، ومواقع التماس الإثنية والإيديولوجية، ملامح جغرافيا الصراع وحدود الفصل وتخوم الوصل في الحيز السوري، والذي تؤكد معظم القرائن أنه لن يكون سوى رسم مصغر عن ماكيت أكبر يتهيأ له الإقليم برمته، فإذا كان الثوار السوريون يعاندون حتى قوانين الطبيعة للوصول إلى حريتهم، فإن أطرافاً كثيرة ترى في هذا الأمر تحدياً وجودياً ومصيرياً لهم، ولذا فإن هذه الأطراف باتت تجد نفسها أمام خيارين لاثالث لهما، إما تعطيل دينامية الحركة الثورية السورية ومنعها من الوصول إلى أهدافها ولو تكلف ذلك النزول العسكري لساحات القتال في مواجهتها، كما يفعل (حزب الله)، أو التوجه صوب إنشاء كيان ثالث، الكيان الأول هو دول المنطقة الحالية، والكيان الثاني هو الشرق الأوسط الإطار الجغرافي للمنطقة، أما الكيان الثالث فهو شرق أوسط جديد.
على وقع ذلك، لايبدوا أن المنطقة تسير باتجاه تحقيق الحلم الأمريكي (شرق أوسط كبير)، بل أن الوقائع تشي بإحتمال ولادة شرقان أوسطيان، سيرتسم هذان الشرقان على خطوط طائفية، يمتلكان بوابات بحرية، ويتقاسمان الواقع الجيوإستراتيجي، بما فيه من سيطرة وإشراف وتأثير، الشرق الأوسط الأعلى (شيعي) ويشمل القوس الممتد من إيران والعراق مروراً بجبال العلويين إلى جنوب لبنان، وما بينهما من إقتطاعات خليجية، أما (كاريدور) طرق ربط هذه المناطق فتلك ما سيتم الاتفاق عليها بعد إنجلاء غبار المعركة السورية، بمعنى القيام بمبادلة للأراضي بين مناطق في حمص وحماة مقابل خط يربط بين المناطق الشيعية في العراق وجبال العلويين في سورية ومناطق البقاع اللبناني.
الشرق الأوسط الثاني الأدنى (سني) و(الأعلى والأدنى هنا تعبران عن واقع تضاريسي بإعتبار أن الأول يضم مناطق جغرافية ذات طبيعة جبلية بنسبة أكبر من الثاني)، يشمل ما تبقى من سورية والعراق ولبنان ومعهم الأردن، ويأخذ معه الهم الفلسطيني( ببعده الديمغرافي أقله)، بعد أن تكون إيران قد أنهت إستثمار قضية الشرق الأوسط بنجاعة، كما يتم تهيئة الحيز الكردي في المنطقة إلى صراع مؤكد مع ما تبقى من سورية وعقاباً لتركيا على خياراتها السنية.
يملك هذا الطرح إغراءاً مقنعاً لروسيا يجذبها لمغامرة السير فيه، فعدا عن كونه يتضمن ملامح إعادتها كقوة فاعلة في الواقع الدولي ولو من باب العبث بالجغرافيا وإعادة تشكيلها، فإنه يمنحها مكاسب ملموسة على الأرض، لن تحصل عليها مع سورية بغير النظام الحالي، 1-عازل بين الإسلام السني العربي ونظيره في القوقاز، 2- منطقة لوجستية لمد خطوط نفط وغاز إلى المتوسط كبديل إستراتيجي لخطوط أوروبا الوسطى، 3ndash; حيز جغرافي يشكل مجالاً تفاوضياً يبعد واقع الحصار عنها ويجعلها طرفاً دوليا موجودا في أماكن عدة.
أما إيران، فإنها تجد نفسها أمام فرصة لن تتكرر ولن تعوض في حال خرجت الامور عن قدرتها على السيطرة في سورية، فهي تسابق الزمن لصنع مجالها الحيوي وهلالها العتيد، وهي اليوم تجد نفسها أمام وضع تستطيع من خلاله تعبئة طاقاتها وشعوبها في إطار ما يسمى الصراع (السني ndash; الشيعي) ولا يمكن لها المغامرة بالتراخي أو الركون وإنتظار تبلور خيارات أخرى، وذلك نابع من إدراك إيران بأن فقدانها لشرفة شرق أوسطية يجعلها عارية من القوة ويهدد مشاريعها الطموحة.
دمشق