وسط الظلام الحالك الذي تعيشه مصر والكوارث المتلاحقة برا وبحرا وجوا في عهد الإخوان المسلمين، لم أشك لحظة واحدة في رؤية شعاع الضوء وميلاد الجديد (ولو) في الهزيع الرابع من الليل. والسبب في تصوري أننا لا نعيش بدايات عصر quot; الإسلام السياسي quot; أو ذروته ndash; كما يري البعض ndash; وإنما نحن نشاهد بداية quot;النهايةquot; لمرحلة كاملة من الهوس الديني الزائف. ويبدو أن خصائص (نهايات) العصور الوسطي المظلمة (كحالة عقلية وبنية ذهنية) واحدة، في مختلف العصور والمجتمعات، وهي نفسها أحد أهم أسباب quot;النهضةquot; أيضا، وكأنها هي quot;السمquot; وquot;الترياقquot; معا أو (الفارماكون) بتعبير أفلاطون.
وكلمة quot; النهضة quot; التي أعنيها (غير quot; طائر النهضة quot; الذي أمعن في وصفه الرئيس مرسي، أو مشروع quot; النهضة quot; الإخواني الذي أصبح مجالا لسخرية المصريين وغيرهم)، كما أن النهضة ليست هي quot; البعث quot; أو quot; الإحياء quot; ndash; حسب التفسير الشائع ndash; وإنما هي مفردة فرنسية ndash; Renaissance معناها quot;الميلاد الثانيquot; أو quot;الميلاد الجديدquot;، وشتان الفرق بين المعنيين، ذلك لأن البعث لا يكون إلا للموتي، بينما الميلاد الجديد يلازم دورة الأجيال والمجتمعات.
ففي نهاية العصور الوسطي الأوروبية كان الرمز الأشهر لرجال الدين هو quot;سافونا رولاquot; (1452-1498) الملقب بالراهب الرهيب، وهو نموذج يكاد أن يكون صورة طبق الأصل من معظم المشايخ اليوم (نجوم الفضائيات والمنابر) في العالم الإسلامي، كان حينما يخطب يكهرب جمهوره بعاطفته الجياشة الصادقة، وكان الناس يتجمعون منذ الفجر ليحظوا بمكان قريب من المنبر في دير سان مارك، في فلورنسا في ايطاليا، وهم يتحسرون وينشجون ندماً على ذنوبهم وخطاياهم ويرتعدون خوفاً من يوم القيامة. أما القلة القليلة - من المتيقظين - فكانت تري فيه مجرد دجال وخطيب رعاع وشحاذ عواطف، ومنهم شاب صغير سيصبح أحد أعمدة النهضة الأوروبية هو quot; نيقولا مكيافيللي quot; (1469 - 1527) الذي كان يستمع إليه في استخفاف ويسميه quot; قربة من الكلام quot;.
مكيافيللي هو أول من دشن علم السياسة الحديث، كعلم وضعي منفصل عن الدين والأخلاق، وفي كتابه quot; أحاديث عن ليفيوسquot; أو quot; المطارحات quot;، الذي تناول آفاق السياسة كلها، أكثر من كتاب quot; الأمير quot;، وان لم يشتهر شهرته، يشرح لنا أسباب نهضة الأمم وانحطاطها، ودور الدين والمؤسسة الدينية في رقي المجتمع أو انهياره، رغم أنه لم يكن متدينا علي الإطلاق.
في الفصل الثاني عشر من الكتاب الأول من المطارحات يؤكد : أن تفسير الدين ndash; أي دين - بما يوافق رغبات الأقوياء والأغنياء والحكام، واكتشاف الناس لهذا الزيف، هو بداية النهاية، حيث يفقد الناس إيمانهم (يكفروا) ويظهر استعدادهم لنقض كل العادات الصالحة. إن الأمم تنحرف عن الدين ndash; كما يقول - حين ينحرف عنه رجال الدين ويتحولون إلى مجرد أدوات تسوغ للناس ما يفعله الأقوياء وتبرر رغباتهم بالباطل طبعًا.
أتصور أن شيئا من هذا يحدث الآن في معظم بلدان الشرق الأوسط وبدرجات متفاوتة، بل إن العديد من مظاهر quot; التمرد العاري quot; وquot; التذمر الفج quot; وquot; السخرية الجارحة quot; تنتشر كالنار في الهشيم في مختلف الأعمار والفئات والطبقات، خاصة وسط quot; جيل الشباب quot; المعولم رغما عن حراسة الآباء ورقابتهم، والمنفلت من كل القيود وأساليب الحظر الأمني والحجر الديني، ليس عبر شبكة الأنترنت أو الأقمار الصناعية ومواقع التواصل الإجتماعي (علي الأجهزة الالكترونية المحمولة)، وإنما أكثر من ذلك وأبعد أيضا.
مكيافيللي الشاب الصغير موجود في مصر الآن، يسمع للفقهاء والمشايخ وينصت للأساتذة والآباء، ولكنه يسخر منهم جميعا علي طريقته، تهز ضحكاته جسده النحيل وتنعش عقله الكبير حتي تدمع عيناه، ربما لم تسلط أضواء الإعلام عليه مثل quot; علياء المهدي quot; أو quot; هيام كارت الشحن quot;، رغم أنه أخطر من هذه الظواهر وغيرها بمراحل، quot; لأنه تجاوز الرفض والتمرد إلي الدهشة والتساؤل، وحين سأل عجز الجميع (الجميع فعلا) عن الإجابة عليهquot;...
الأهم من ذلك أن quot;مكيافيللي المصريquot; أصبح حديث الملايين عبر شبكة الانترنت في أقل من يوم واحد، وأصبحت ورقة إجابته علي امتحان الدين مادة للضحك والتندر والتعليقات والقفشات وخفة الدم، ولكن quot;الرسالة وصلتquot; ndash; وربما دون أن يدري إذ تساءل الجميع (نفس سؤاله ورددوا نفس إجابته العبقرية) وبعد أن راحت الضحكة وجاءت الفكرة قالوا بالفم المليان: (عنده حق) ! ...
في أحد أسئلة امتحان الدين كتب الممتحن هذا السؤال : مفاتيح الغيب خمسة لا يعلمها إلا الله، أذكر واحد منها ؟ ... فأجاب الطالب ساخرا: quot; كيف لا يعلمها إلا الله، وتقل لي أذكرها !! quot; .. واعتبر المصحح طبعا إجابته خاطئة.
السؤال الذي شغلني هو: من الذي صور ورقة الإجابة هذه ووضعها علي مواقع الانترنت؟ .. وهل عصر الانترنت والفضائيات quot;بداية النهضةquot; الشاملة مع وصول الإسلاميين إلي الحكم، مثلما كان الاختراع الثوري لمطبعة يوحنا جوتنبرج متزامنا مع محاكم التفتيش الدينية؟
لقد دفعت المطبعة مع قسوة محاكم التفتيش الأوروبيين إلي قراءة كتابهم المقدس وتفسيره بأنفسهم وبلغاتهم القومية بعد أن كان كالتعاويز لا يفهمها إلا الصفوة من حراس الدين والفقهاء؟ .. أتصور أن quot; مكيافيللي quot; ليس وحده الموجود في مصر والعالم العربي اليوم، وإنما أيضا : quot; مارتن لوثر quot; وquot; زونجلي quot; وquot; إرازموس quot; وquot; توماس مور quot; وquot; سيرفانتيس quot; وquot; جاليليو quot; وquot; كوبرنيقوس quot; وquot; فرنسيس بيكون quot; وquot; نيوتن quot; وquot; ليوناردو دافنشي quot; وquot; مايكل أنجلو quot; وquot; روفائيل quot; وغيرهم الكثير من رجالات النهضة.
[email protected]