تنظيم الواقع في عالم من المفاهيم هو مركز الفلسفة على النطاق العالمي، كما قال الفيلسوف quot;لودفيج فتجنشتينquot;، ومن هنا : quot;فإن الوعي بالعالم لا بد من أن يقع خارجه. ففي العالم كل شيء على ما هو عليه، ويحدث بالصورة التي يحدث بها. ولا توجد قيمة فيه واذا وجدت فستكون بلا قيمة. واذا كانت هناك أشياء لها قيمة فلا بد ان تكمن خارج كل ما يحدث.quot;
هذه الشذرة الفلسفية التي وردت في كتابه (بحوث فلسفية) تلخص أحدث ما وصلت إليه فلسفة العقل ndash; The Philosophy of Mind: إن الشئ الذي يجعل العقل مهما بالفعل هو مقدرته علي معالجة المعلومات، وبعد انتظار طويل اعطانا الكمبيوتر الحديث النموذج العملي (التمثيلي) لفهم قدرات العقل في معالجة المعلوماتquot;.
بيد انquot; الدماغ quot; الإنساني ليس كمبيوترا رقميا، لأن (الأرقام) أو الحساب لا يوجد في الطبيعة، بل (ينسب إليها)، منذ quot;جاليليوquot; الذي وصف الطبيعة في القرن السابع عشر، بأنها مكتوبة بلغة رياضية، يقول quot;جون سيرلquot; في نهاية كتابه (العقل: مدخل موجز): quot;السؤال : هل الدماغ جوهريا كمبيوتر رقمي؟ .. الجواب: لا شئ كمبيوتر رقمي جوهريا سوي الأشخاص الواعين الذين يفكرون بواسطة الحساب. وإذا سألت : هل بإمكاننا أن ننسب ترجمة حسابية إلي الدماغ؟ الجواب هو : نعم ننسب ترجمة حسابية إلي أي شئ.quot;
وبعبارة أخري: quot;يعمل الكمبيوتر بتعليب الرموز، بينما العقل الإنساني يملك أشياء أكثر من الرموز، إنه يعطي (معني) للرموزquot;. أن شيئين يحدثان داخل الإنسان ndash; حسب سيرل - في نفس الوقت، الأول هو الرموز الواقعية التي يدركها عندما يفكر، والثاني هو المعني، أو التأويل، أو المعني المرتبط بهذه الرموز. اللعب بالرموز شئ ومعرفة معانيها شئ آخر، أجهزة الكمبيوتر تعرف بلغة تلاعب الرموز، والتلاعب بالرموز بحد ذاته ليس شرطا مؤسسا ولا كافيا للمعني.
ويؤكد quot; مات كارتر quot; علي هذه الحقيقة ذلك أن برامج الكمبيوتر تطبق حرفيا قواعد النحو والمنطق الخالص، في المقابل نجد أن التفكير الإنساني يدور غالبا حول شئ ما ويمثل شيئا ما له مضمون معين، والمشكلة الرئيسية التي تواجه الذكاء الاصطناعي حتي الآن هي الوصول إلي (فحوي) برامج الكمبيوتر نفسها واستخلاص المعاني (علم الدلالة) من علم النحو، فالإنسان - علي عكس الكمبيوتر - لديه خبرة بالعالم الخارجي ومن هنا quot; تتمكن حالاتنا العقلية المختلفة من حيازة المعني بسبب وجود صلة بالعالم الحقيقي عبر خبراتنا الحسيةquot;
وتنقلنا هذه النتيجة إلي إشكالية أخري تتعلق بالعلاقة بين المعرفة والوعي، فالمعرفة تتميز ndash; علي عكس الوعي ndash; بأنها quot; موضوعية quot; ورغم أنها نتاج الوعي فإنها لا تتسم بالصفة (الموضوعية) إلا بعد أن نزيل عنها كل الجوانب الذاتية (للوعي). اللافت للنظر أن الحيوانات والآلات أيضا قادرة علي تصنيع quot; المعرفة quot;، وان كانت بدرجة أقل من الإنسان، ناهيك عن انها لا تستطيع التعبير عن هذه المعرفة أو امتلاك أفكار أو مشاعر تجاهها، وهو ما يشير ndash; من الناحية المنطقية الشكلية - إلي إمكان تحقيق الوعي بالآلات يوما ما.
المعرفة إذا هي نتاج معالجة المعلومات، ونحن البشر نملك وعيا متقدما ومعقدا لاتساع قدرتنا علي المعرفة، ومعالجة المعلومات. السؤال هو: هل أي نظام قادر علي معالجة المعلومات يملك وعيا؟ هل يمكن أن تمتلك أجهزة الكمبيوتر ذكاء ووعيا وأن تشعر وتفكر؟
أهم اجابة توصل إليها فلاسفة العقل في السنوات الأخيرة هي: حتي تصبح الآلات الذكية وأجهزة الكمبيوتر قادرة علي التفكير (بالمعني الإنساني) يجب أن تمتلك القدرة علي (ارتكاب الأخطاء)، نعم (ارتكاب الأخطاء).. إن الأجهزة الألكترونية لا تخطئ ndash; حتي الآن - لأنها quot;آليةquot; أي : تعمل بدقة وسرعة واتقان، وتنفذ المطلوب منها (حرفيا).
وكأن القدرة علي ارتكاب الأخطاء لها معني أعمق بكثير ndash; من كل المعاني (الدينية والأخلاقية) الدارجة ndash; فالدماغ الإنساني ليس quot;آلةquot; تنتج سلوكا حتميا، وهو ما يكشف عن مساحة quot;الحريةquot; التي يمتلكها الإنسان (حرية التفكير والخيال والرفض والتمرد والمرونة والتحايل) وبالتالي المسئولية المباشرة التي يتحملها نتيجة مواقفه وخياراته والثمن الذي يدفعه أيضا.
ان quot;فلسفة العقلquot; أصبحت في نهاية عام 2012 وبداية عام 2013 بمثابة استكشاف لما نعرف وما لا نعرف، وهي تتاخم عمل عقولنا نفسها فضلا عن أنها ضرورية لدراسة مختلف القضايا التي تشغلنا في العقد الثاني من الألفية الثالثة (انها بالضبط العقل حين يتجلي في عقلانيته وإنسانيته).
[email protected]