مثلت الوقفة الإحتجاجية التي نظمتها جمعية القضاة التونسيين مؤخرا أمام مقر المجلس الوطني التأسيسي - والتي شارك فيها محامون وممثلون عن المجتمع المدني، مطالبين بالمسارعة بإحداث هيئة وقتية للإشراف على القضاء العدلي- الحدث على الساحة القضائية في البلاد التونسية نظرا لأهمية توقيته وللتأثير الكبير الذي أحدثه.
فالتحرك جاء نتيجة لوضعية مزرية جدا يعيشها القضاء التونسي الذي صرح السيد وزير العدل نفسه ndash;الحاكم بأمره في هذا المجال- وفي اعتراف خطير منه، بأنه (أي القضاء)غير مستقل. وجاء هذا التحرك أيضا نتيجة لتراكمات من التجاوزات التي تم تسجيلها في هذه المرحلة الإنتقالية الثانية سواء من النيابة العمومية أو من القضاء الجالس فيما يتعلق بقضايا تهم الرأي العام. حيث لم يعد يخفى على عاقل أن القضاء التونسي مسيس وخاضع لأهواء الفريق الحاكم ولم يتخلص من ازدواجية المعايير في التعامل مع الملفات التي ورثها عن العهد السابق واستفحلت خلال هذا quot;العهد الجديدquot;.
فالتحرك وإن جاء متأخرا بعض الشيء من قبل جمعية القضاة، إلا أنه تعبير صادق عن حالة التأزم التي يشهدها القطاع والتي بلغت مداها ولم يعد من الممكن السكوت عنها والتمادي في الصمت الذي سيؤدي بالبلاد في نهاية المطاف إلى مالا يحمد عقباه، خاصة بعد تعبير قائد السبسي وجماعته (في خطوة خاطئة وغير محسوبة العواقب)عن نيتهم في اللجوء إلى القضاء الدولي بعد أن صم قضاؤنا الوطني آذانه عن تجاوزات الفريق الحاكم ومن والاهم ممن نصبوا أنفسهم حماة للمعبد دون تفويض وناطقين بإسم الثورة.
بالفعل لقد بلغ السيل الزبى وطفح الكيل ولم يعد أهل القطاع وكذا شريحة هامة من الشعب التونسي( قد يعتبرها البعض أقلية بعد أن سيطر الفريق الحاكم على السواد الأعظم من التونسيين بخطاب ديني شعبوي) قادرين على التمادي في تجاهل هذه الوضعية الكارثية للقضاء التونسي التي حمل السيد وزير العدل المسؤولية عنها بالكامل للنظام السابق، رغم أنه وفريقه الحاكم مسؤولون بـquot;التضامنquot; مع نظام بن علي عنها، باعتبار أن حكامنا الجدد quot;رضي الله عنهمquot; والذين يمسكون بمقاليد الدولة وأحكموا القبض على مفاصلها، لم يتحركوا قيد أنملة في سبيل إصلاح الهيكل القضائي وحافظوا على المنظومة السابقة خدمة لمصالحهم الضيقة ومن أهمها تسليط سيف القضاء على خصومهم كلما دعت الضرورة إلى ذلك.
لقد أحدث هذا التحرك من قبل جمعية القضاة رجة حقيقية بعد أن تناقلت الخبر وكالات الأنباء العالمية ما أساء لصورة الفريق الحاكم لدى أولياء نعمته الغربيين وخصوصا صناع القرار في واشنطن كما في عواصم أوروبية. فليس حدثا عاديا أن ينزل شرفاء مشهود لهم بالنضالية خلال العهد السابق من quot;أصحاب الروب الأسودquot; على غرار القاضية الفاضلة كلثوم كنو، إلى الشارع في يوم عمل تحركهم الضرورة وquot;الأمر الحاتمquot; للمطالبة بإصلاح القضاء من فريق حاكم يوهم حلفاءه الغربيين باستمرار وكلما سنحت الفرصة بأنه خير أمين على الإنتقال الديمقراطي في quot;مهد الربيع العربيquot;.
لذلك سارعت نائبة رئيس المجلس التأسيسي على إثر هذه الوقفة إلى استقبال رئيسة جمعية القضاة ومن المؤكد أن الأمر قد تم بأمر من quot;المرشد الأعلىquot; على إثر ضغوط سلطت عليه من الضفة المقابلة للمتوسط ومن وراء المحيط أيضا. وجاء في بيان صادر عن رئاسة المجلس الوطني التأسيسي بأن المجلس على أتم الإستعداد لسن مشروع القانون المنظم للهيئة الوقتية للقضاء العدلي( تم في هذا البيان حذف كلمة quot;المستقلةquot; من تسمية هذه الهيئة نزولا عند رغبة كتلة حركة النهضة التي لديها حساسية من هذه الكلمة ربما لأنها تريدها خاضعة وغير مستقلة).
لقد كان هذا التحرك (الذي قابله كالعادة مؤيدون للفريق الحاكم امتهنوا سب وقذف كل من يعترض على الحكومة بما في ذلك القضاة غير عابئين بما لهم من هيبة يستمدونها من هيبة الدولة) ناجحا بكل المقاييس ولا بد أن تعقبه تحركات أخرى مادام المجلس الوطني التأسيسي الذي تسيطر النهضة على أغلب مقاعده لم يحدد موعدا دقيقا لسن مشروع القانون المشار إليه، ومادامت حركة النهضة تسعى لنيل رضا الغرب ومباركته ولن تتحمل العواقب الوخيمة لأي إضراب مستقبلي أو وقفة احتجاجية قد يتم تنظيمها هنا أو هناك من قبل quot;أصحاب الأوزان الثقيلةquot; على غرار المنظمة الشغيلة (الإتحاد العام التونسي للشغل) أو جمعية القضاة.
فالظرف مناسب للضغط على الفريق الحكومي (الذي لا يعير اهتماما لمعارضيه في الداخل ويهرول تنفيذا لإملاءات الخارج) من أجل تحقيق منافع ذات مصلحة عامة. فحكام تونس الجدد بحاجة إلى إعادة تلميع صورتهم بعد أن تآكل رصيد الثقة الذي كانوا يتمتعون به لدى الغرب خاصة بعد حادثة حرق السفارة الأمريكية في تونس احتجاجا على الفيلم المسيء للرسول (ص)، والتي نتج عنها تأجيل كل من المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند لزيارتهما إلى تونس. زيارتان كانتا ستجلبان منافع استثمارية وسياحية وهبات مالية تحقق بعضا من الإنفراج في الوضع الإقتصادي المزري للبلاد.