شهد المجلس الوطني التأسيسي في تونس مؤخرا جلسات ساخنة محورها إقالة محافظ البنك المركزي السابق -أو حاكم المصرف المركزي مثلما يسمى في بعض الأقطار المشرقية -السيد مصطفى كمال النابلي وتعيين السيد الشاذلي العياري مكانه. وقد شهدت هذه الجلسات مداخلة للنائب محمود البارودي جلبت إليها أنظار الرأي العام في تونس وباتت حديث الشارع ومواقع التواصل الإجتماعي حيث وصف النائب المحترم تونس مع الحكومة الحالية بـ quot;جمهورية موزquot; وأن رئيسها هو quot;رئيس لجمهورية الموزquot;.
وقد أثار هذا الوصف سخط نواب الحزب الحاكم وأتباعهم مما يعرف بالترويكا الحاكمة وطالبوا النائب بالإعتذار عنها وذهبوا إلى حد المطالبة بإقالته واتهمه البعض بالخيانة العظمى وكالت له الصفحات المحسوبة على حركة النهضة في مواقع التواصل الإجتماعي قدرا كبيرا من التهم ونعتته بأقذع النعوت وكأنه ارتكب جرما لا يغتفر خاصة وأن أغلب هؤلاء يجهلون معنى هذه العبارة التي أطلقت بداية على الدول الهشة في أمريكا الوسطى والكاراييب التي كانت إقتصادياتها مبنية على تصدير الفواكه الإستوائية المحتكرة من قبل الشركات الأمريكية الكبرى التي تنصب رؤساء هذه الدول وحكامها، ثم أصبحت تطلق على الدول غير المستقرة التي تفتقر إلى المؤسسات والتي تتخذ فيها القرارات حسب الأهواء وأمزجة الحكام وهي كثيرة في عالمنا العربي وفي القارة السمراء وبعض بلدان آسيا وأمريكا اللاتينية.
والحقيقة أن العبارة التي استهجنها البعض تبدو مناسبة لتوصيف الواقع التونسي الجديد. ففي تونس رئيس بلا صلاحيات يرفل في نعيم قصر قرطاج دون أن يكون فاعلا في الحياة السياسية تجاوزته الأحداث وكذا حركة النهضة حين سلمت رئيس وزراء القذافي البغدادي المحمودي إلى بلاده دون علم الحقوقي السابق الذي قاوم استبداد بن علي رغم أن التنظيم المؤقت للسلط العمومية يفرض إمضاء ساكن قرطاج على قرار التسليم. وفي تونس تقبل الحكومة التي تتحكم النهضة بمفاصلها بإقالة محافظ البنك المركزي إرضاء لرئيس الجمهورية الذي يكن عداء شخصيا للمحافظ المقال حفاظا على الترويكا الحاكمة حتى لا ينفرط عقدها بعد تجاوز الرئيس في مسألة تسليم البغدادي المحدودي.
وفي تونس يكتب قرار إقالة محافظ البنك المركزي بخط اليد وبالقلم وبأخطاء لغوية بدائية ويصل إلى المجلس الوطني التأسيسي في غير آجاله القانونية ورغم ذلك يمرره رئيس المجلس حليف الحزب الحاكم ويصوت عليه نواب النهضة غير عابئين بالآجال والقوانين المنظمة لعملهم بعد تحولهم إلى حواسيب مبرمجة للتصويت بنعم على غرار نواب برلمان بن علي الذين لم يشهد التاريخ اعتراضهم على مشروع قانون واحد خطته أيادي المقربين من نزيل quot;أبهاquot; البهية.
وفي تونس يعين محافظ بنك مركزي جديد قبل إقالة المحافظ الأول ويصل قرار التعيين متأخرا خارج الآجال إلى المجلس الوطني التأسيسي الذي صدم أغلب نوابه بعد تحول مجلسهم وهو مصدر السلطات في هذه المرحلة الإنتقالية إلى مجرد مصادق على قرارات الحكومة ورئاسة الجمهورية بفعل شدة خضوع نواب الترويكا الحاكمة إلى قياداتهم الحزبية على حساب مصالح البلاد العليا وبفعل رئيس مجلس تأسيسي تثور ثائرته حين تنتقد حركة النهضة ويقاطع نواب المعارضة ولا يترك لهم المجال للحديث والتعبير عن الرأي في حين يلتزم الصمت كلما أمعن نائب نهضوي في انتقاد المعارضة.
وفي تونس quot;السياحيةquot; يعيش الشعب هذه الأيام على وقع تراكم الزبالة ويتساءل رئيس الحكومة أثناء زيارته لحي شعبي بضواحي العاصمة انتشرت فيه الروائح الكريهة للمزابل quot;أين هي الحكومة؟quot; التي لا يعرف رئيسها الجواب. وفي تونس أيضا هذه الأيام انقطاع مستمر للماء والكهرباء في المدن الكبرى وهو أمر لم يعرفه التونسيون من قبل فحتى في أيام الثورة والبلاد بلا رئيس لم ينقطع تزويد المواطنين بالماء والكهرباء ولم تنقطع خدمات الإنترنت ولا توقفت وسائل النقل العمومي عن العمل ونال الموظفون رواتبهم في آجالها بفعل إدارة عصرية متطورة كانت مضرب الأمثال أرسى دعائمها الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة مثلما أرسى دعائم جيش عربي فريد من نوعه لا يتدخل في الشأن السياسي وولاؤه للوطن فحسب لا للزعيم أو للثورة أو لقائدها أو للطائفة أو القبيلة. هذه الإدارة وعلى غرار عهد بن علي تواصل مع النهضة -التي تحكم بعد ثورة - تعيين موظفيها الجدد حسب الولاءات للحزب الحاكم لا حسب الكفاءات. فحركة النهضة تسارع الخطى قبل موعد الإنتخابات - التي أصبح كثيرون يشككون في إمكانية حصولها أصلا- إلى تعيين أكبر قدر ممكن من أبنائها في مناصب حيوية كولاة ومعتمدين وعلى رأس المؤسسات العمومية الكبرى والبعثات الديبلومسية ضاربة بمبدأ الفصل بين الإدارة والحزب عرض الحائط سائرة على خطى بن علي الذي هيمن على مفاصل الدولة وأرسى بها دعائم ديكتاتوريته.
كما أن هيبة البلاد في الخارج أصبحت على المحك بفعل قرارات تخضع إلى الأهواء يتم اتخاذها من هذا الطرف أو ذاك دون العودة إلى المؤسسات. فوزارة الخارجية أعلنت في وقت سابق أنها ستعفي المواطنين المنتمين إلى بلدان المغرب العربي من جواز السفر ويكفي استظهارهم ببطاقة الهوية للعبور إلى الأراضي التونسية. وهو ما أثار حفيظة الطرف الجزائري الذي اعتبر نفسه غير معني بمثل هكذا قرار يتخذ من جانب واحد وهو محق في ذلك لأن هذه القرارات تتخذ بمقتضى اتفاقيات تبرم بين البلدان المغاربية وتصادق عليها برلمانات تلك الدول. وليس أدل على تراجع هيبة تونس في الخارج من استقبال رئيس الجمهورية المنصف المرزوقي من قبل وزير زراعة في أثيوبيا ومن قبل وزير الكهرباء المصري أثناء زيارته إلى القاهرة فالرئيس مرسي لم يكلف نفسه عناء التحول إلى المطار لاستقبال ضيفه وهو أمر لم يألفه التونسيون ورأى فيه كثر إهانة للدولة التونسية وجب الرد عليها بالمعاملة بالمثل. فالحبيب بورقيبة على سبيل المثال، كان رؤساء الولايات المتحدة يتحولون إلى المطار لاستقباله ولا ينتظرون حلوله بالبيت الأبيض مثلما هو شأن باقي زعماء العرب. وكانت الصحافة الفرنسية حين تستعرض آراء القادة عبر العالم حول حدث ما تقتبس آراء بورقيبة إلى جانب رؤساء أمريكا والبلدان الأوروبية وروسيا والصين. وبالتالي فقد نجح بفعل كاريزما نادرة وشخصية قوية في فرض الهيبة والإحترام للدولة التونسية أينما حل ومنذ أيام حكمه الأولى.
أما عن تجاوزات الوزراء والمستشارين - الذين فاق عددهم الثمانين مما يثقل كاهل الدولة برواتب لا مبرر لها- فحدث ولا حرج. فهذا وزير يفرض كريمته في وظيفة وتقوم بالتوقيع على الوثائق الرسمية بإسم quot;إبنة الوزيرquot;. وذاك نجل وزير آخر يعنف فتاة في مبنى الحرم الجامعي، وآخر يتهم بتمكين قريبه من إجتياز امتحان الباكالوريا بصورة استثنائية خلال الدورة الثانية رغم أنه لم يمتحن خلال الدورة الأولى وهو ما تمنعه القوانين. وهناك من المستشارين من ضبط صهره يستغل سيارة تابعة لرئاسة الجمهورية لقضاء شؤون خاصة والأمثلة عديدة ومتعددة.
ومن المضحكات المبكيات أن تتم إقالة مدير إذاعة تونس الدولية السيد الحبيب بلعيد دون إعلامه بالقرار الذي فوجئ به من موظفي الإذاعة أثناء حلوله بالمقر لمباشرة عمله كالمعتاد ليخلفه تقني في اختصاص الكهرباء لا علاقة له لا من قريب ولا من بعيد بالميدان السمعي البصري من الموالين للترويكا الحاكمة.
إنه غيض من فيض من أمثلة عديدة لما يحصل في تونس مع فريق حاكم ينتهج سياسة النعامة في عدم الإعتراف بالواقع وبأخطائه المتعددة ولا يقبل الإنتقاد ويعتبر خصومه السياسيين أعداء وأزلاما ومتآمرين وفلولا للنظام السابق وسائرين في ركاب الثورة المضادة. يستمر في الهروب إلى الأيام ولم يقدم اعتذارا واحدا عن خطأ ارتكب رغم أن الأخطاء كبيرة وكارثية في كثير من الأحيان وكلفت وستكلف البلاد غاليا وكأننا أمام أنبياء معصومين في أذهان أنصارهم الذين استقبلوهم بأنشودة quot;طلع البدر عليناquot; حين عادوا من لندن إلى قرطاج عودة quot;الفاتحين المظفرينquot;. فهل نحن بالفعل في جمهورية موز على رأي النائب البارودي؟ أم أنه علينا انتظار عقود حتى يشتد عود هؤلاء لنرى منهم ما يسر الناظرين؟