لا يختلف إثنان في أن الثورة التونسية كانت بامتياز ثورة الشباب الماسك بناصية التكنولوجيات الحديثة الذي مل حالة الجمود لطبقته السياسية الحاكمة المتهرمة ابتداء من رئيس البلاد الأسبق مرورا بوزرائه ووصولا إلى مستشاريه الذين بلغ أغلبهم من العمر عتيا ولم يعودوا قادرين على ملامسة هموم الشاب التونسي وتطلعاته.
وهو ما جعل التغيير يفاجئ هذه الطبقة السياسية كما السواد الأعظم من المراقبين سواء في تونس أو خارجها. وكان في الحسبان أن تأخذ الفئات الشبابية دورها الريادي في الحياة السياسية بعد الثورة إلا أن شيئا من ذلك لم يحصل وبقيت دار لقمان على حالها. فالمتأمل في قائمة رؤساء الأحزاب السياسية وأمنائها العامين يلحظ أن quot;كبار القومquot; في الساحة السياسية التونسية هم من الطاعنين في السن.
وزير الخارجية في الحكومة التونسية المؤقتة السيد رفيق عبد السلام صرح في وقت سابق أن العمر الإفتراضي لرئيس الحكومة السابق الباجي قائد السبسي قد انتهى في إشارة إلى تقدمه في السن وعدم جدارته بالإستمرار في الحياة السياسية. لكن قائد السبسي ليس وحده من تقدم به العمر فالشيخ راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة وصهر السيد وزير الخارجية تجاوز السبعين ومثله رئيس المجلس الوطني التأسيسي مصطفى بن جعفر الذي قضى سنوات نشاطه السياسي متنقلا بين الأحزاب في مسيرة حافلة قضاها بين الحزب الإشتراكي الدستوري وحركة الديمقراطيين الإشتراكيين قبل أن يؤسس التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات أين استقر به المقام في مقاومة استبداد بن علي. أما أحمد نجيب الشابي زعيم الحزب الجمهوري فسيبلغ قريبا الثامنة والستين ويقاربه في السن كل من رئيس الجمهورية المنصف المرزوقي والسيد أحمد إبراهيم أحد أبرز زعماء اليسار.
رؤساء الأحزاب السياسية في تونس عاصروا ساسة غربيين وعالميين اختفوا من المسرح السياسي في بلدانهم فيما نظراؤهم التونسيون يعيدون إنتاج أنفسهم في كل مرحلة. فمن السياسيين التونسيين من عاصر جيمي كارتر وفورد وكينيدي وبمبيدو وفاليري جيسكار ديستان وربما ماوتسي تونغ وهوشي منه وليوبولد سيدار سنغور وحتى المهاتما غاندي. لكن أغلبهم بدؤوا مشوارهم السياسي رسميا رؤساء لأحزابهم نهاية سبعينات وبداية ثمانينات القرن الماضي في عهد الرئيس اللبناني إلياس سركيس - الذي تداول على حكم بلاده من بعده ستة رؤساء هم بشير الجميل وأمين الجميل وريني معوض وإلياس الهراوي وإميل لحود وميشيل سليمان- وفي فترة كان فيها رونالد ريغن في بداية عهده في حكم الولايات المتحدة على رأس الحزب الجمهوري ومثله فرانسوا ميتران في فرنسا يترأس الحزب الإشتراكي. وغادر ساكنا البيت الأبيض والإيليزيه سدة الحكم في بلديهما وتعاقب على حزبيهما عدة رؤساء وتوفيا وأصبحا جزء من الذاكرة ومادة للمؤرخين فيما نظراؤهم التونسيون صامدون في مواقعهم يترأسون أحزابهم ولا يبدو أن مسألة التداول تعنيهم في شيء.
فمن أهم مميزات المشهد السياسي التونسي هو ظاهرة التمسك بالكراسي والإستقتال للحفاظ عليها سواء بالنسبة لرؤساء الجمهورية أو حتى رؤساء الأحزاب. فالعالم يتغير من حولنا والجمود هو الميزة الأساسية للحياة السياسية في بلادنا. فبن علي حكم تونس طيلة ثلاث وعشرين سنة تداول فيها على فرنسا ثلاثة رؤساء وربما كان سيشهد فوز أولاند وهو متربع على عرش قرطاج لكن الأقدار لم تمهله. وتداول على حكم الولايات المتحدة في عهده أربعة رؤساء بداية من بوش الأب انتهاء إلى أوباما. كما عرف لبنان في عهد بن علي أربعة رؤساء، والجزائر خمسة، من الشاذلي بن جديد إلى بوتفليقة مرورا بمحمد بوضياف وعلي الكافي واليمين زروال.
أما رؤساء الأحزاب السياسية فلا يختلفون كثيرا عن ديكتاتورهم الذي أذاقهم الأمرين في مسألة التمسك بالكراسي فأحمد إبراهيم الزعيم اليساري البارز لم يخلف المرحوم محمد حرمل على رأس الحزب الشيوعي أو حركة التجديد لاحقا بعد تغيير التسمية إثر إنهيار المعسكر الشرقي إلا حين هرم هذا الأخير ولم يعد قادرا على إدارة شؤون الحزب. وأحمد نجيب الشابي على رأس الحزب الديمقراطي التقدمي منذ تأسيسه تحت مسميات أخرى وإلى حين اندماجه مع التحالف الجمهوري. وحزب التكتل من أجل العمل والحريات لم يعرف رئيسا غير مصطفى بن جعفر وينسحب الأمر على الباقين بما في ذلك الحزب الحاكم.
على سياسيينا في تونس أن يستخلصوا العبر من نظرائهم في الغرب، عليهم أن ينظروا إلى ساركوزي وهو يغادر سدة الحكم في عنفوان الشباب فهو من مواليد 1955 وإلى بيل كلينتون قبله الذي ترك رئاسة البلاد لخلفه جورج بوش الإبن بعد ولايتين متتاليتين وعمره لم يتجاوز الرابعة والخمسين وكان أداؤه الأفضل من بين رؤساء الولايات المتحدة ولم يخش الأمريكيون من صغر سنه حين انتخبوه رئيسا في السادسة والأربعين. عليهم أن ينظروا إلى توني بلير رئيس وزراء بريطانيا الأسبق الذي حكم في سن الأربع والأربعين وغادر quot;10 داونينغ ستريتquot; في الرابعة والخمسين.
فهل المشكلة في ثقافة هذه القيادات التي تتمسك بالسلطة ولا تحترم مبدأ التداول داخل أحزابها. أم في الفئات الشبابية التونسية التي تفتقر إلى المؤهلات والقدرة على فرض النفس وإعلاء الصوت داخل الأحزاب؟
مما لا شك فيه أن الوضع السياسي في تونس والذي طغى لعقود كان له تأثيره السلبي في هذا المجال. فالشباب التونسي لم يكن مهتما بالشأن السياسي قبل الثورة حيث جرى توجيه اهتماماته إلى الرياضة وغيرها مما ساهم في إبعاده عن الشأن العام. كما أن احتكار وجوه من النظام السابق للحياة السياسية طيلة عقود حال دون تشكل زعامات وقيادات شابة كان يمكن أن تأخذ المشعل بعد الثورة. كما أن التضييق على الأحزاب السياسية خلال الفترة السابقة حال دون عقد أغلب هذه الأحزاب لمؤتمراتها التي كان يمكن بالإمكان أن تفرز قيادات جديدة وهي التي لم تكن قادرة على النشاط في مقراتها المركزية بالعاصمة فما بالك بإمكانية فتح مكاتب جهوية داخل البلاد وعقد مؤتمرات.
لكن مهما كانت الأسباب فإننا بحاجة اليوم وأكثر من أي وقت مضى إلى تشريك الفئات الشبابية في القرار داخل الأحزاب السياسية ومنحها الثقة لنيل المناصب القيادية جنبا إلى جنب مع ذوي التجربة حتى تفرز هذه الأحزاب قيادات قادرة في المستقبل على تسيير أحزابها وإدارة شؤون البلاد إذا منحها الشعب ثقته. لأنه لو بقي الأمر على حاله ستعاني البلاد باستمرار من فراغ سياسي ولن يحصل التداول الطبيعي فيتم الإستنجاد في كل محطة تاريخية بمن هم في سن الباجي قائد السبسي وأحمد المستيري وأحمد بن صالح ومصطفى الفيلالي الذين لا يمكن التشكيك في تاريخهم النضالي وتجربتهم الطويلة في سياسة شؤون الحكم وكذا في المعارضة والعمل النقابي على مدى عقود امتدت إلى أيام النضال ضد الإستعمار الفرنسي. أطال الله في أعمارهم جميعا لكن الزمن غير الزمن ومتطلبات العمل السياسي تقتضي باستمرار التداول على المناصب وضخ الدماء الشبابية حتى لا تهرم أجهزة الدولة.