مثلت قضية الإعلامي سامي الفهري مدير قناة التونسية الخاصة الحدث الأبرز على الساحة القضائية في البلاد التونسية. نظرا لما شاب هذا الملف من شبهات جعلت الرأي في حيرة من أمره ومما يحصل في كواليس النيابة العمومية ووزارة العدل في أرض الخضراء. خاصة وقد quot;اختلط الحق بالباطلquot; واستحال على المرء أن يميز quot;الخبيث من الطيبquot; وأن يتبين quot;الخيط الأبيض من الخيط الأسودquot;.
فإدانة سامي الفهري - بتهمة الإضرار بالمال العام حين كان شريكا لأحد أصهار بن علي- من عدمها باتت أمرا تفصيليا ثانويا وحام الجدل بالأساس حول مسألة احتجازه. هل بات قانونيا بعد نقض محكمة التعقيب (محكمة النقض في بعض بلدان المشرق العربي وهي المحكمة العليا) لقرار دائرة الإتهام وإحالة الملف مجددا لأنظار محكمة الإستئناف لتبت فيه بتركيبة أخرى؟ أم أن الأمر تحول إلى احتجاز شخص بدون أي وجه قانوني وهي جريمة خطيرة يعاقب عليها القانون الجزائي التونسي؟
فالتأويل الذي قدمه وزير العدل الأستاذ نور الدين البحيري يمكن الإعتداد به من الناحية القانونية. كما أن تأويل لسان الدفاع عن الفهري للنصوص القانونية مقنع إلى حد بعيد وما على القاضي الجزائي الذي هو بالأساس قاضي وجدان إلا أن يحسم المسألة لكن عليه أن يراعي عدة معطيات. منها أن الشك يؤول لصالح المتهم وأن مجرما بحالة سراح أفضل من بريء في السجن.
ولا يشك عاقل أن الموضوع وبعيدا عن أروقة العدالة هو مسيس. إذ يبدو أن حركة النهضة التي ينتمي إليها السيد وزير العدل لم تغفر لسامي الفهري برامجه الناقدة لتوجهاتها وخصوصا برنامج quot;اللوجيك السياسيquot; الذي حظي بمتابعة جماهيرية كبيرة، وهو عبارة عن دمى تجسد السياسيين التونسيين بما في ذلك زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي والرؤساء الثلاثة في مواقف ساخرة. والدليل على ذلك أن البرنامج تم إيقاف بثه قبيل إصدار بطاقتي الجلب والإيداع بحق سامي الفهري، الذي تحول بفعل غباء جهات في الفريق الحاكم لم تعتبر ممن سبقها في سياسة أمور العباد في هذه البلاد، إلى بطل لا يشق له غبار رغم الشبهات التي تحوم حول الفساد المالي في علاقته ببلحسن الطرابلسي صهر بن علي.
إذ يجمع أغلب المتابعين بأن تتبع سامي الفهري في الوقت الراهن بهذه الطريقة quot;المشبوهةquot;، التي تحوم حولها عديد نقاط الإستفهام، هو كلمة حق يراد بها باطل. فالغرض ليس تطبيق القانون على مؤسس قناة التونسية من أجل اختلاس المال العام وإنما الإنتقام منه من أجل فضحه للممارسات الخاطئة لحركة النهضة وحلفائها في الترويكا الحاكمة في هذا الوقت الوجيز الذي أداروا فيه البلاد.
فلو كان الفريق الحاكم يرغب بالفعل في محاسبة رموز النظام السابق والمنتفعين والمتمعشين منه لكان فعل ذلك مع الجميع، ودون سياسة الكيل بمكيالين. إذ يرتع في البلاد اليوم فاسدون غرقوا مع أصهار بن علي إلى حد النخاع، وسلبوا ونهبوا قوت هذا الشعب، ثم غيروا ولاءاتهم بسرعة البرق وتمسحوا على عتبات حركة النهضة quot;المباركةquot; وهم اليوم أرباب مؤسسات إعلامية تشتم وتثلب في خلق الله من المعارضين للنهضة ليل نهار دون رقيب أو حسيب.
كما أن الفريق الحاكم لو كان يرغب بالفعل في محاسبة رموز الفساد لكان سرع في مسار العدالة الإنتقالية، التي تم قبرها في وزارة لم تفلح إلا في إقامة الندوات وإنفاق المال العام على استضافة هذا الضيف أو ذاك أو السفر إلى مشارق الأرض ومغاربها بداعي الإستفادة من الآخرين، رغم أن التجارب في هذا المجال واضحة وجلية ويعلمها القاصي والداني.
إذ يمكن أن تكون لنا في تجارب كل من إفريقيا الجنوبية وأوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية quot;عبرةquot; إذا كنا من quot;أولي الألبابquot;. وعلينا أن نستبعد التجارب الإنتقامية الفاشلة على غرار التجربة العراقية إذا كنا نروم بالفعل إقامة مجتمع ديمقراطي تعددي قائم على السلم الأهلي والوئام المدني قادر على توفير الرفاه والعيش الكريم للأجيال القادمة من التونسيين من الذين لم ينشؤوا في رحم الإستبداد والديكتاتورية.
إن ما يحصل مع سامي الفهري لا ينبئ بأن البلاد تسلك الدرب القويم. بل يقيم الدليل القاطع على أن انحرافا ما حصل في المسار الثوري وجب الإنتباه إليه بصورة مبكرة قبل أن يستفحل. فرياح الثورة لم تهب بعد على المؤسسة القضائية التونسية وكل ما في الأمر أن سيد الأمس قد فر إلى غير رجعة وأن الجماعة التي اعتادت على الطاعة العمياء والخنوع سرعان ما استكانت لجبار جديد مناع للخير في سطوته عتيد.