طغت أحداث مدينة سليانة التونسية (التي شهدت مؤخرا مظاهرات رفعت مطالب إجتماعية تصدى لها البوليس التونسي بقمع وحشي استعمل خلاله ما يعرف برصاص الرش الذي يصيب كامل الجسد ويحدث تشوهات خلقية وقد يتسبب في فقدان البصر) على المشهد العام في البلاد خلال الأيام الماضية ولا يبدو أنها ستغيب مستقبلا عن التجاذبات السياسية التي تشهدها تونس. ومن المؤكد أن هذه الأحداث ستتحول إلى أحد أبرز العناوين الرئيسية في الحملات الإنتخابات خلال المواعيد السياسية القادمة (هذا إن حصلت انتخابات مستقبلا مع مماطلة الفريق الحاكم في تحديد موعد دقيق لها).
وقد ألقت هذه الأحداث بظلالها على الساحة القضائية أيضا من خلال الخبر الذي تداولته بعض وسائل الإعلام والمتعلق بعزم مجموعة من المحامين التونسيين التقدم بشكاية لدى ممثل النيابة العمومية بمدينة الكاف ضد كل من رئيس الحكومة حمادي الجبالي ووزير داخليته علي العريض من أجل تهمة محاولة القتل العمد والقتل العمد في أحداث سليانة.
ويرى مراقبون أن هذه الشكاية ستكون اختبارا حقيقيا لاستقلالية القضاء في تونس ما بعد الثورة. إذ ستوضع النيابة العمومية - التي تسارع إلى تتبع محام من أجل انتقاده لعمل قضائي أثناء قيامه بعمله وفي وقت قياسي رغم الحصانة التي منحت للسان الدفاع من خلال المرسوم الجديد المنظم لمهنة المحاماة التونسية - في امتحان حقيقي أمام الرأي العام، يبدو من خلال المؤشرات المتعلقة باستقلالية القضاء في تونس أنها ستفشل فيه ولا يمكن لومها على ذلك بالنظر إلى عدة معطيات واقعية.
فالقضاء التونسي الذي لم يعرف الإستقلالية وتاريخه يشهد بذلك، والذي كان يرأس مجلسه الأعلى رئيس الجمهورية قبل الثورة في اعتداء صارخ على مبدأ المفكر والفيلسوف الفرنسي مونتسكيو (الفصل بين السلطات). أصبح خاضعا بالكامل بعد انتخابات 23 أكتوبر 2011 لسلطة السيد وزير العدل الذي بيده المسائل التأديبية وكذا الترقيات والنقل التي تهم القضاة وهو أمر لا يستقيم. ولا يخال عاقل أن هناك نائبا عاما، في ظل هذه الظروف، قادر على إغضاب الأستاذ نور الدين البحيري وزير العدل وتتبع رفيقي دربه في حركة النهضة حمادي الجبالي وعلي العريض لأجل عيون أهالي ولاية سليانة وجرحاها.
لكن هذه الخطوة على رمزيتها تبقى مهمة، فللمرة الأولى في تاريخ البلاد تقدم شكاية ضد مسؤولين سياسيين يباشرون مهامهم في أعلى هرم السلطة التنفيذية (رئيس الحكومة الذي يتمتع بصلاحيات رئيس الجمهورية الأسبق ووزير الداخلية)، وهو مكسب حقيقي من مكاسب الثورة وجب النضال للمحافظة عليه وتدعيمه من خلال الإصرار على تحقيق إستقلال القضاء عن السلطة التنفيذية وفقا للمعايير الدولية المتعارف عليها غير المتوفرة في القضاء التونسي الحالي الذي كان ولا يزال أداة لإرهاب خصوم الحكومة.
كما أن استهداف الشكاية لكل من رئيسي الحكومة ووزير الداخلية دون الأمنيين أمر ينم عن وعي بدأ يتشكل لدى التونسيين مفاده أن رجال الأمن هم ضحايا للسلطة السياسية شأنهم شأن باقي أفراد الشعب الذين هم بالأساس أبناؤه، وأنهم ينفذون التعليمات ويعاقبون حين يمتنعون عن تنفيذها في غياب الإطار التشريعي الذي يحميهم في حال امتنعوا عن إطاعة الأوامر التي تسعى بعض الجهات السياسية لأن تكون شفوية غير مكتوبة حتى يمكن التفصي منها وإلصاق تهمة الجرح أو القتل برجل الأمن.
فحين تسن القوانين التي تبيح لعون الأمن quot;المغلوب على أمرهquot; عصيان الأوامر حين يتعلق الأمر بقمع مواطنيه من خلال جرحهم أو إصابتهم في مقتل، دون أن يتعرض للمساءلة أو الإنتقام من رؤسائه. وحين تصبح هذه القوانين واقعا ملموسا على مستوى التطبيق وليس مجرد حبر على ورق. ويصبح بالفعل لتونس أمن جمهوري خادم لشعبه فحسب وليس للسلطة السياسية أيا كانت انتماءاتها ليبرالية أو إسلامية أو قومية أو يسارية.... يمكن حينها تتبع رجل الأمن ومساءلته والذهاب بعيدا معه في المحاسبة إداريا (من خلال العقوبات التأديبية الإدارية المنصوص عليها في النظام الداخلي المنظم لعمل رجال الأمن) وجزائيا (من خلال تتبعه قضائيا وإقرار العقوبة الملائمة لفعله إذا ثبتت الإدانة مع ضمان حقه في محاكمة عادلة يحترم فيها حق الدفاع).
أما والحال بخلاف ذلك فإن تكريس مسؤولية الرئيس عن أفعال المرؤوس سيكون الحل لردع السياسيين من رؤساء ورؤساء حكومات ووزراء عن قمع شعبهم في الوقت الراهن والتفصي من المسؤولية وإلصاقها برجال البوليس ومن يطبقون التعليمات، في مشهد يبعث على الأسف والأسى تحول فيه ضحايا الأمس القريب في تونس، الذين أغراهم بريق الكراسي وأذهب عقولهم، إلى جلادين قساة يبررون القمع الوحشي لشعبهم وهم أكثر من اكتووا بناره في الأيام الخوالي خلال حقب الإستبداد التي رحلت غير مأسوف عليها.