تشهد المحاكم التونسية ظاهرة ملفتة شدت إليها أنظار الرأي العام الوطني وحتى جهات حقوقية وإعلامية خارجية تتمثل في الإرتفاع المهول للملفات quot;المكسوةquot; بـ quot;الصبغة السياسية quot; إذ يبدو جليا أن فرقاء السياسة في البلاد بصدد إعداد العدة لمعارك قضائية طاحنة الهدف منها بالأساس شيطنة الخصوم وإزاحتهم عن حلبة المنافسة قبيل الإستحقاقات الإنتخابية القادمة. وفي غياب القضاء المستقل الذي نادى بإصلاح منظومته أكثر من طرف، يصبح الأمر مدعاة للشك والريبة ومثارا للتأويلات في مناخ سياسي متعفن تحكمه المزايدات وتخوين الأطراف لبعضها البعض.
وتأتي قضية quot;التآمر على أمن الدولةquot; المشتبه في ارتكابها رجل الأعمال كمال اللطيف الذي quot;ملأ الدنيا وشغل الناسquot; إلى جانب وزراء من العهد السابق في طليعة هذه الدعاوى نظرا لأن الأسماء التي تداولت وسائل الإعلام إمكانية تورطها هي من الحجم الثقيل. فقد زج بمؤسس حزب نداء تونس الباجي قائد السبسي في هذه القضية رغم نفي وزير العدل نور الدين البحيري وجود إسم رئيس الحكومة السابق بين من سيقع تتبعهم.


نقاط استفهام
وتجدر الإشارة إلى أن هذه القضية تثير أكثر من نقطة استفهام لعل أبرزها تلك التي تتعلق بالجهة التي حركت هذا الملف وبتوقيت إثارته في هذا الظرف الحساس الذي تمر البلاد. فلا يخفى على عاقل الصراع الذي كان خفيا وبرز مؤخرا إلى العلن بين كمال اللطيف (صديق قديم لبن علي عارض زواج الأخير من ليلى الطرابلسي فحصلت القطيعة بين الرجلين) وأحد رجال الأعمال ممن يمولون صحيفة اختصت في شتم وقذف الفريق المعارض للحكومة. ما يرجح فرضية تحريك غريم كمال اللطيف للدعوى بحسب البعض في إطار صراع بين رجلي أعمال من ذوي النفوذ والمال والجاه.
ولعل ما يدعم هذه الفرضية هو حديث البعض عن علاقة وطيدة تجمع بين رئيس الحكومة السابق الباجي قائد السبسي وكمال اللطيف (الذي تتحدث إشاعات على أنه رجل أمريكا المكلف ليس بملف تونس فحسب بل بكامل ملفات البلاد المغاربية) في مقابل اقتراب خصم كمال اللطيف من بعض الجهات النافذة في الفريق الحاكم ما يرجح لدى البعض فرضية أن استهداف كمال اللطيف هو ضرب لحزب نداء تونس ورئيسه قائد السبسي من قبل خصومه السياسيين وعلى رأسهم حركة النهضة بعد أن بدأت استطلاعات الرأي تصنفه إلى جانب الأخيرة في خانة الأحزاب الأوفر حظا للفوز بالإنتخابات القادمة.


زوبعة في فنجان
في المقابل يذهب البعض باتجاه اعتبار أن ما يحصل لا علاقة له بنداء تونس ولا برئيسه ولا بالصراع الدائر بين كمال اللطيف وغريمه رجل الأعمال المشار إليه وإنما هو مجرد زوبعة في فنجان أثارتها الحكومة لصرف الأنظار عن إخفاقاتها وعن الزيادات المهولة التي لم تعد تقتصر على المواد الغذائية الأساسية والماء والكهرباء والبنزين بل طالت الطوابع الجبائية ومعاليم الجولان والتضييق على المواطن من خلال حرمانه حتى من تلك القروض الإستهلاكية التي كانت متنفسه للخروج من حين لآخر من ضائقة مالية قد تعيق مسيره في سبل الحياة.
كما أن المطالبة بالمحاسبة للفاسدين في النظام السابق من قبل أنصار الحكومة تجعل هذه الأخيرة بحسب البعض تلجأ من حين لآخر إلى بعض المسكنات لـquot;آلامquot; هؤلاء خصوصا جماعة quot;إكبسquot; (جماعة موالية للحكومة تطالب بمحاسبة الفاسدين وتطهير الإدارة منهم) ومن سار على خطاها. فتعتقل سامي الفهري (مدير قناة التونسية الذي كان شريكا لأحد أصهار بن علي) أو برهان بسيس (أحد الوجوه الإعلامية البارزة التي دافعت عن سياسات بن علي في الفضائيات العربية) ثم تفرج عنه أو تحرك دعوى ضد هذا الطرف أو ذاك لتظهر بمظهر الحريص على المحاسبة وعلى تحقيق أهداف الثورة وعلى المضي قدما في تطهير البلاد من الفساد والمفسدين وما إلى ذلك من quot;الكليشياتquot; الجاهزة والعبارات المنمقة التي تنزل بردا وسلاما على بسطاء القوم حين تتلقفها آذانهم التي تطرب وتنتشي لسماعها. لذلك فإن المدافعين عن هذه الفرضية يؤكدون على أن هذه التهمة ستحفظ بحق كمال اللطيف دون أن يستدعي الأمر طرحها على مجلس قضائي للبت فيها.
فريعة مرجان وجغام
وتداولت وسائل الإعلام التونسية أيضا أن هذا الملف يتضمن أسماء وزراء سابقين عملوا مع بن علي على غرار وزيري الداخلية الأسبقين أحمد فريعة ومحمد جغام ووزير الخارجية كمال مرجان رئيس حزب المبادرة ولم يتم الحديث عن الركن المادي، أي أفعال هؤلاء تحديدا ودورهم في جريمة التآمر على أمن الدولة ليبقى المجال مفتوحا لعديد التأويلات. فهل هؤلاء شركاء لكمال اللطيف؟ أم فاعلين أصليين؟ وأية علاقة تجمع بينهم وبين كمال اللطيف على فرض صحة الشبهة التي طالتهم من النيابة العمومية؟
ويذهب عدد آخر إلى اعتبار أن التهم التي طالت من وردت أسماؤهم في هذا الملف هي حقيقية لا تشوبها شائبة وأن وقت المحاسبة قد حان وأن عديد الرؤوس بصدد التهاوي جراء هذا المسار الثوري الذي انتهجته الحكومة، وأن القضاء - الذي اتهمه البعض بأنه مازال أداة بيد السلطة الحاكمة كما كان في السابق يتم تسليطه على كل صوت معارض- بات مستقلا يقوم بدوره في تطهير البلاد من الفساد والمفسدين. وأصحاب هذا الرأي هم بالأساس أنصار الترويكا الحاكمة وquot;من والاهمquot;. وتبقى الأيام القادمة وحدها الكفيلة بتبيان الخيط الأبيض من الخيط الأسود وإماطة اللثام عن الحقيقة وخفايا لعبة الكبار التي باتت شرسة إلى أبعد الحدود ويخشى من استفحالها خاصة مع الحديث المتداول عن النفوذ الكبير للمتصارعين في حلبة القضاء، على جهات أمنية وعسكرية وقضائية ما ينذر بفرضية دخول تونس فيما لا يحمد عقباه.