من مفكرة سفير عربي في اليابان

كتبت صحيفة اليابان تايمز في 24 من شهر يناير الماضي مقال تقول فيه: quot;لقد نجح فريق أبحاث ياباني من جامعة كيوتو تشكيل انسجة الكلية من الخلايا الجذعية، فقد قام فريق برئاسة البروفيسور كنجي اوسافيون بأول محاولة ناجحة في تاريخ الطب في العمل على تكوين الكبيبات والأنابيب البولية من الخلايا الجذعية.quot; فمن المعروف بأن الكلية مكونة من انسجة معقدة وحينما تتعرض لإصابة متلفة تنتهي بهبوط الكلية فيحتاج المريض للمعالجة بجلسات تنظيف الدم بالكلية الصناعية، استعدادا للحصول على كلية من متبرع لنقلها للمريض المصاب. فقد يكون هذا التطور الطبي الجديد خطوة لمعالجة مرضى هبوط الكلية بكلية جديدة مشكلة من الخلايا الجذعية لنفس المريض، وقد يمكن الحصول على هذه الخلايا الجذعية من جلد المريض نفسه.
وهذا التطور التاريخي خطوة تطبيقية لما اكتشفته أبحاث رئيس مركز أبحاث الخلايا الجذعية بجامعة كيوتو البروفيسور شنيا ياماناكا، والذي حصل في شهر أكتوبر من العام الماضي بالمشاركة مع وبروفيسور جامعة كامبريدج البريطاني، جون جودون على جائزة نوبل في الطب والفيزيولوجيا لعام 2012، لاكتشافهما بأن الخلايا الكهلة يمكن برمجتها لتتحول إلى خلايا جنينية. وقد علق مجلس جائزة نوبل بمركز كارولنسكا بالعاصمة ستكوهولم في ذلك الوقت على أن أبحاث يماناكا وجوردون على الخلايا الجذعية قد خلقت ثورة في فهمنا لكيفية تطور خلايا وأعضاء الجسم، بعد أن طورا طريقة لبرمجة نواة الخلية الكهلة لترجع لأصلها خلية جنينية جذعية، ويمكن بعدها أن تتحول إلى أي نوع من خلايا الجسم الكهلة التي قد يحتاجها المريض في علاجه. وفعلا أثبت البروفيسور كنجي اوسافيون بأنه قد يمكن انقاذ مرضى الفشل الكلوي quot;مستقبلاquot; بأخذ بعض من خلايا جلد المريض وتحويلها لخلايا جذعيةن يمكن بعدها اضافة بعض المواد التي تستطيع تحويلها إلى أنسجة مزودرم متوسطة، والتي يمكن أن يتشكل منها بعد ذلك خلايا متنوعة تكون الكبيبات والاقنية البولية.
لقد تحدى جون جوردون قبل اربعة عقود من الزمن نظرية أن الخلايا الكهلة المتميزة لا يمكنها أن ترجع لأصلها الجنيني. بينما أكتشف شنيا ياماناكا بعد أربعين عاما، أي في عام 2006، كيفية برمجة الخلايا الكهلة في الفئران لتتحول إلى خلايا جنينية جذعية، وفعلا نجح في تحويل خلايا الجلد إلى خلايا جنينية جذعية. كما أثبتت أبحاث جون جوردون قبل أربعة عقود بأن الخلايا الكهلة تحافظ على ذاكرتها الجنينية، فمثلا الخلايا العصبية المسئولة عن شبكة التواصل العصبية استطاعت المحافظة على صفاتها في الامتصاص، كخلايا الامعاء. وقد أكمل أحدى التطبيقات العملية لهذا الاكتشاف البروفيسور كنجي أوسافيون بأن تمكن فريقه تكوين أنسجة الكلية من الخلايا الجذعية.
فقد تمكن فريق البروفيسور كنجي اوسافيون تشكيل خمسة أنواع من خلايا الكلية مهمة في ترشيح الدم وتنظيفه من السموم والمستقلبات ومن ثم نقله من الكبيبات المشكلة، من خلال أقنية بولية لحوض الكلية، ومن ثم الحالب وحتى المثانة. وقد يبدو مفهوم هذا البحث صعبا ولتبسيط فهمه ليسمح لي القارئ العزيز بمقدمة علمية مبسطة.
من المعروف بأن الجنين البشري يبدأ بتكون المضغة، نتيجة لاندماج نصف خلية ذكرية تسمى بالحيوان المنوي، والتي تحتوي على 22 مورثة جسمية، ومورثة Y الذكرية أو مورثة X الأنثوية، مع نصف خلية مؤنثة تسمى بالبويضة، والتي تحتوي على 22 مورثة جسمية، ومورثة X الأنثوية، ليتكون من هذا الاندماج خلية جنينية كاملة. وتنقسم هذه الخلية الجنينية عدة مرات ليتكون منها المضغة، والتي تحتوي على ثلاث طبقات من الخلايا، أولها الطبقة الخارجية، والتي يتكون منها الجلد والجهاز العصبي، وطبقة متوسطة يتكون منها العضلات والكلية والخصية والمبيض، والطبقة الداخلية التي يتكون منها الجهاز التنفس والدوران. لذلك تتميز الخلية الجنينية بإمكانية انقسامها إلى 200 نوع من الخلايا البشرية، من خلايا القلب والمخ، وحتى خلايا الدم والعظام، ولتتكاثر إلى حوالي ستين تريليون خلية، لتكون الجسم البشري بأطرافه الأربعة، والقفص الصدري، بمحتوياته من القلب والرئة والشرايين، والبطن بما يحتويه من الأمعاء والكبد والكلية والبنكرياس. ولنتذكر بأن الخلية هي مصنع بيولوجي، يستهلك الغذاء والماء والأكسوجين، لينتج ما يحتاجه الجسم من طاقة لصنع مواد كيماوية مهمة لبقائه وتجدد خلاياه، وتقع في مركزه المورثات، وفي محيطه مصانع متنوعة للخلية، بعضها تنتج الطاقة، وبعضها الأخر ينتج البروتينات التي يحتاج لها الجسم في تكملة بنيته. وتحتوي المورثات على برامج تشغيلية تسيطر على مصانع الخلية، وتسمى بالجينات، وتحتوي خلايا الإنسان على ما يقارب خمسة مليار برنامج تشغيل جيني.
وقد أعتقد البروفيسور ياماناكا بأن سر تغير الخلايا من خلايا جنينية إلى خلايا كهلة يقع في البرامج التشغيلية للجينات، وفعلا استطاع أن يكتشف أربعة برامج جينية مسئولة عن تحول خلايا الجلد إلى خلايا جنينية جذعية. وحينما أضيفت هذه الجينات الأربعة إلى الخلية الجلدية تحولت إلى خلية جذعية جنينية، كما تمكن فريقه أن يحول هذه الخلايا الجذعية باضافة مواد بيولوجية معينة إلى مختلف أنواع الخلايا من القلب والكبد والكلية وحتى الخلايا العصبية والعضلية. كما بينت تجارب فريقه في الحيوانات بأنه من الممكن معالجة الشلل العصبي بزرع هذه الخلايا الجنينية الجذعية في النخاع الشوكي، ومعالجة مرض السكري بزرعها في غدة البنكرياس. وستكون التطبيقات العملية المستقبلية لهذا الاكتشاف مذهلة، فمثلا إذا أصيب مريض بتلف أحد أعضاء جسمه من القلب والأعصاب إلى الكبد والكلية والبنكرياس، يمكن أخذ عينة من سطح جلده، وتحويلها لخلايا جذعية، ثم زرعها لتتكاثر في العضو التالف أو في دمه لتشفيه. كما ستساعد هذه الخلايا على معرفة آلية الكثير من الأمراض المستعصية، وإنتاج أدوية جديدة لمعالجتها، وتطوير فحوصات جديدة لتشخيصها، واكتشاف تأثير الأدوية على المريض نفسه، بدل الاعتماد على الخبرات السابقة للمرضى الآخرين فقط. وقد كانت نتائج أبحاث البروفيسور كنجي اوسافيون هي أحد التطبيقات العملية لاكتشافات البروفيسور ياماناكا.
وقد أكد بروفيسور ياماناكا للصحافة اليابانية بأنه هناك حاجة لتأسيس بنك للخلايا الجذعية لعلاج الأمراض المستعصية. ويعتقد بأنه من الممكن بدء إنتاج خلية جذعية في الانسان مع بداية العام القادم، وذلك بتحويل الخلايا البشرية الكهلة إلى خلايا جنينية جذعية، وبعدها يمكن إنتاج اي نوع من نسيج أعضاء الجسم، من خلايا القلب لعلاج هبوط القلب، وحتى الخلايا العصبية لعلاج الشلل. ويحاول البروفيسور ياماناكا أن يستخدم في هذا البنك خلايا كريات بيضاء لإنتاج الخلايا الجذعية، ويعتقد بأنه من الممكن الاستفادة من الخلايا المتبرعة من شخص واحد لإنتاج خلايا جذعية لحوالي 20% من سكان اليابان البالغ عددهم 127 مليون. كما أكد بأنه سيحتاج لتنفيذ هذه التكنولوجية الجديدة لتطبيقاتها العملية لفترة لا تقل عن عشر سنوات. لذلك هناك حاجة لشبكة دعم حكومية تقيم فائدة الابحاث وتقدمها كل خمس سنوات. وقد قررت الحكومة اليابانية دعم مشروع البروفيسور ياماناكا للخلايا الجذعية لمدة خمس سنوات منذ عام 2007، وستنتهي هذه المدة قريبا وتحتاج لدعم حكومي جديد. والحكومة اليابانية الجديدة عازمة على دعم ابحاث البروفيسور ياماناكا والاستفادة من تكنولوجيتها طبيا واقتصاديا.
وقد بدء شروق جديد لأبحاث الخلايا الجذعية، بعد سنوات من الخلافات السياسية الايديولوجية حول اخلاقياتها، التي اصلا كانت تعتمد على خلايا الاجنة، ولكن تبقي سحب معقدة تحتاج لتوضيحها، بعد أن تم برمجة الخلايا الكهلة لتتحول الى خلايا جنينية، بعد ادخال اربعة جينات جديدة في نواتها، بدون الحاجة اليوم للخلايا الأجنة. وقد بينت نظريات القرن التاسع عشر بأن الخلايا الجذعية يمكن أن تتحول لأية نوع من الخلايا لعلاج القلب المريض، او الرئة المصابة، أو اصابة العمود الشوكي، وحتى علاج مرض الباركسون. ومع الأسف تأخرت التطبيقات العملية لهذه النظريات حتى عام 2010، حينما اجريت التجربة الاولى للخلايا الكهلة، حينما زادت المعارضة ضد الخلايا الجذعية المأخوذة من الاجنة، وبعد أن منع الرئيس جورج بوش الابن الصرف على الابحاث الخلايا الجذعية من خلايا الأجنة، وبعد رفض القضاء الاوربي تسجيل براءة الاختراع لتكنولوجية الخلايا الجذعية من خلايا الأجنة.
وفي عام 2006 حل بروفيسور ياماناكا المشكلة الاخلاقية المتعلقة باستخدام خلايا الاجنة لإنتاج الخلايا الجذعية، بعد أن استطاع في المختبر إنتاج خلايا جذعية من برمجة خلايا الجلد الكهلة في الحيوانات. وبعد سنوات طويلة من الابحاث، بدأت المراكز البحثية تطبيقات تجارب الخلايا الجذعية في الإنسان، بعد تمكن إنتاج الخلايا الجذعية من خلايا الجلد الكهلة. ففي عام 2010 قام فريق بحثي امريكي بدراسة زرع الخلايا الجذعية في شبكية المرضى المصابين بالعمى. وفي العام الماضي قام الاطباء بحقن 16 مريض مصابين بمرض إحتشاء القلب، بالخلايا الجذعية للقلب، لإرجاع وظيفة عضلة القلب لطبيعتها في النبض. كما تم في السويد زرع انبوبة هواء مزروعة بخلايا جذعية من نفس المريض، بعد ان أستأصلت القصبة الهوائية للمريض بسبب السرطان. واليوم يضاف اكتشاف جديد من اليابان ومن نفس مركز أبحاث البروفيسور ياماناكا باكتشاف بروفيسور كنجي اوسافيون تشكيل خلايا الكلية من الخلايا الجذعية، والذي سيفتح الطريق لمعالجة مرضى الهبوط الكلوي.
ولنذكر القارئ العزيز بأن جميع نجاحات البروفيسور ياماناكا ترجع لدعم رجل أعمال ياباني له، حينما رجع البروفيسور ياماناكا من الولايات المتحدة، وحاول إنشاء مركزا لابحاث الخلايا الجذعية في جامعة كيوتو. فقد طلب الدعم المالي من السيد أناموري، من خلال مؤسسة جائزة كيوتو، التي أسسها السيد أناموري، موازية لجائزة نوبل، لأبراز ألابحاث المتميزة التي خدمت الانسانية. ومن الجدير بالذكر بأن السيد أناموري مؤسس شركة كيوسيرا، والذي بداء كمهندس بسيط، ليصبح اليوم صاحب أكبر أمبراطورية تكنولوجية تجارية في اليابان. وقد طلبت الحكومة اليابانية مؤخرا من السيد أناموري أدارة شركة الطيران اليابانية quot;جالquot; لإنقاذها من الإفلاس، وفعلا استطاع بإدارته المتميزة أن يخرج هذه الشركة من صعوباتها المالية ولتبدأ نشاطها من جديد. ويبقى السؤال لعزيزي القارئ: هل سيأخذ رجال الأعمال العرب ألأفاضل هذا الرجل مثلا لهم، ليلعبوا دورا في تطوير الأبحاث التكنولوجية في المنطقة، للاستفادة من تطبيقاتها اجتماعيا واقتصاديا؟ ولنا لقاء.
سفير مملكة البحرين في اليابان