قد تصبُّ اتهاماتُ لجنةِ التحقيق التابعة للأمم المتحدة للطرفين المتصارعين في سورية، بارتكاب جرائم حرب، في الجهود الساعية إلى كبح جماح الصراع، أكثر مما هي قضية مرشحة، على الأقل، في المرحلة الراهنة، إلى الملاحقة القانونية، ولو أن اللجنة أعلنت أنها تعمل على إعداد لائحة اتهام سرّية بأسماء المتهمين من كلا الطرفين: أفراد من الأمن السوري، وأفراد من الجماعات المعارِضة، إلى المحكمة الجنائية الدولية التي ليست سورية عضوا فيها.

ونظرا لأن سورية لم توقع على نظام روما الأساسي الذي أنشئت بموجبه المحكمة الجنائية الدولية فانَّ الوسيلة الوحيدة التي يمكن بها للمحكمة التحقيق في الوضع هو إذا تلقت إحالة من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، حيث تتمتع موسكو بعضوية دائمة.
ولو كان ثمة إجماع في مجلس الأمن، من الدول الدائمة العضوية، لما كانت الأوضاع وصلت إلى هذا المستوى من التدهور، أصلا، فلم تنجح واشنطن، أو أنها لم تصمم، على استصدار قرار من مجلس الأمن بالتدخل، ضمن الفصل السابع، يخوّل بإجراءات حاسمة؛ للمساعدة في إسقاط نظام الأسد، وهذا ما صرح به وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، بأنَّ الغرب يصلي؛ كي نعارض التدخل العسكري.
ولعل السبب الأبرز في ذلك، هو أنه لا يتوفر بديل ناضج، وقادر على تمثيل القوى المعارضة، على الأرض، بالإضافة إلى خصوصية الموقع الجيوسياسي لسورية، وتشابكاتها الإقليمية، والتوازنات التي تتوجب مراعاتُها، لدى القبول بتغيير بحجم النظام السياسي في دمشق.
ولكن واشنطن، قد تعمل على تسريع عملية الحل التوافقي، بالضغط على الطرفين، وعلى الطرف الأكثر تعنتا، وعرقلةً للحل، تحديدا؛ خشية انفلات الأوضاع، وخروج الجماعات المرتبطة بالقاعدة، أو الشبيهة بها، عن السيطرة.
وتلافيا لارتدادات سلبية محتملة على استقرار المنطقة والدول المجاورة، وأهمها إسرائيل، وكذا تداعياتها الطائفية على لبنان والعراق، وغيرهما.
ففي هذا السياق قد تحاول واشنطن والقوى الغربية، وحتى روسيا وضع هذه التلويحات القانونية.

ولسنا بحاجة إلى التذكير بثنائية القانون الدولي والمصالح السياسية، فلا تفعيلَ له جديا، أو متابعة، على حساب الخط السياسي، ولا سيما في الأزمات الحية المستمرة.
فنتذكر مذكرة الاعتقال التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية 2009م بحق الرئيس السوداني، عمر حسن البشير، بتهمة ارتكاب جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، في دارفور، لكن محاولات مدَّعيها العام، لويس أوكامبو ظلت تراوح مكانَها، إذ لم تدعم واشنطن مساعيه، وظل الرئيس السوداني يتنقل، دون خطر جدي، أو ملاحقة، وليس السببُ الأهم كونَ الولايات المتحدة غيرَ موقعة على معاهدة إنشاء laquo;الجنائية الدوليةraquo;، وإنما لأنَّ الأولوية كانت لتمرير الحل السياسي القاضي بفصل جنوب السودان، ودور البشير في هذا المشروع.

وكذلك نتذكر الأمر القضائي الذي صدر في بريطانيا في أواخر 2009م بحق وزيرة الخارجية الإسرائيلية السابقة، تسيبي ليفني عن جرائم حرب اتُّهمتْ بها، في الحرب على قطاع غزة 2008-2009م ولكنه لم يُفعَّل، كذلك.
وفي قضية مشابهة للأزمة السورية تمكَّن الرئيس اليمني السابق، علي عبد الله صالح، حتى الآن، من النجاة من الملاحقة القانونية على الجرائم التي وقعت بحق المتظاهرين اليمنيين، في أحداث عام 2011م الأمر الذي دفع laquo;منظمة هيومن راتس ووتشraquo; إلى المطالبة برفع الحصانة عن الرئيس اليمني السابق، باعتبارها مخالفة للقوانين الدولية ومواثيق الأمم المتحدة.
وحتى لو كان بإمكان رفعُ تقرير الاتهام إلى المحكمة الجنائية الدولية من قِبَل مجموعة من الدول الموقعة على المعاهدة، فإنَّ المساومات والضغوط الأمريكية، والدولية الفاعلة يُرجَّح أن توقف تلك الإجراءات، وتعيد الأزمة السورية إلى صعيدها السياسي، وآليات حل الصراع هناك، بالحوار والتفاوض والمقايضات...
وفي هذا السياق تأتي تصريحات نائب وزير خارجية روسيا، جينادي جاتيلوف، إذ قال- تعليقا على الدعوة لإحالة مجرمي الحرب في سورية إلى المحكمة الجنائية الدولية- إن هذا laquo;ليس المسار الذي يجب أن نسلكه...في هذه المرحلة سيكون في غير أوانه، وسيأتي بنتائج عكسيةraquo;
بالطبع هذه الدعاوى القانونية لا يعني أنَّها كأنَّها لم تكن، ولكن تفعيلها، أو تجميدها، وتوقيت التفعيل، ومقداره، كلُّه يبقى خاضعا للاعتبارات السياسية، فلها الأولوية، وهي العنصر المهيمن في التفعيل والانتقاء والتوقيت.
[email protected].