قالت وزيرة الخارجية الأمريكية إنَّ أقطار الربيع العربي اعتلى السلطةَ فيها حكامٌ تنقصهم الخبرةُ السياسية. هذا تشخيصٌ لا يخلو من صواب، ولكن الخلل ليس مقتصرا على الحكام، وإن كان ثمة رأي يذهب إليه غوستاف لوبون يرى بأن الأكثر تأثيرا في الأمم والشعوب إنما هم القيادات والزعامات.
بالطبع هذا الرأي، وخلافه لا يمكن أن يغفل أهميةَ الكيان الاجتماعي للشعب، أن يكون هذا الكيان متماثلا، أو متقاربا، بتاريخه، وقيمه، وتصوراته، ومطالبه...
ومن الممكن أن نسلط الضوء أكثر على مصر وسورية؛ لأهميتهما النسبية، أولا، في محيطهما العربي، ولأنَّ الأولى تمثل التحقق السلمي للثورة، فيما تمثل الثانية التحول الدموي التدميري.
فبعد أن تهلل وجهُ مصر، واستشرف أبناؤها مستقبلا واعدا، وحياةً كريمة انتكست أوضاعُها، وأصبحت على شفا الانهيار، مع أنها لا تتوفر من الناحية النظرية على مقومات الحرب الأهلية، إلا أن الاحتقان، وحدّة الصراع بين الأطراف السياسية والفكرية، أخذ ينحو بالبلاد تجاه الاقتتال...
فما الأسباب؟
من أول ما يُذكر هنا، حداثة عهد المجتمع المصري بهذا القدر من التفاعل السياسي والفكري الذي أتاحه غيابُ الحاكم القوي، بل حكام عسكريون، منذ ثورة يوليو، 1952م.
وهي التي أحدثت انقطاعا في الحياة الفكرية؛ ما حرم الأجيالَ التي عاشت في كنفها من فرصة تطوير مشروع حقيقي للنهوض، لا يمكن أن يتحقق الاتفاق عليه من قوى المجتمع، إلا في مناخ من الجدل القادر على الغربلة والاصطفاء. وقبل أن ينجح هذا المناخ في بلورة قواسم مشتركة للحياة السياسية، فإنه يكرِّس تقاليد حوارية ضرورية.
كذلك كان من آثار الإطاحة بالرئيس السابق مبارك الذي كان يتمتع بقبضة أمنية شديدة أن أحسَّ الشعبُ المصري بقدر من الاعتزاز بلغَ حدَّ الزَّهْو أحيانا، والاستخفاف في مهام الدولة والحكم، ظهر ذلك، مثلا، في كثرة الذين ترشحوا للرئاسة إلى درجة كاريكاتورية ...
ومع أن الإخوان يتفوقون على غيرهم من الأحزاب والقوى السياسية بالتنظيم والقدرة على التعبئة والحشد فإنهم، كغيرهم، لم يتعودوا على هذا القدر من النقد والتمحيص، حين التقابل الحر مع أضدادهم وخصومهم، كما أنهم - وهذه مسألة أهم- لم يتعودوا على أعباء الحكم وتحديات صعبة جوبهوا بها بقوة..
وبسبب الإرث الطويل من الاستبداد ترسخت في جموع المصريين هواجسُ قويةٌ، من أن يكون أيُّ حاكمٍ مقبل مستبدا جديدا، أو مشروعَ مستبد، وفاقَم من هذه المخاوف أنَّ الرئيس مرسي يمثل الإخوانَ المسلمين، الجماعة الدينية التي لا تتورع عن استخدام سطوة النص والعقيدة، لتحقيق أهدافها السياسية، ولا سيما وأن خصومها مجردون من هذا السلاح، على مستوى البرامج السياسية، وهم الليبراليون، والقوميون...
ولما لم يكن الشعب المصري يملك رفاهية الانتظار السياسي؛ نظرا لحاجاته الاقتصادية والاجتماعية الملحة، فإنَّ القوى السياسة المعارضة باتت أكثر قدرة على الانتفاع بالامتعاض الشعبي، حتى إنها في بعض الحالات بدت منفعلةً بالمزاج الشعبي، وغير قادرة على السيطرة، عليه، باعتراف قادة في المعارضة المصرية.
ومن هنا جاء تدخل الجيش، بالتحذير من خطورة انهيار الدولة، وأنه لن يسمح بذلك؛ فالجيش هو ضمانة الدولة والاستقرار في مصر، وكما لم يسمح لمبارك أن يستمر في الحكم، على خراب مصر، فهو من باب أولى، لن يسمح للإخوان أن يستمروا، إذا أظهروا عجزا عن الحكم.
سورية:
وإذا كانت مؤسسة الجيش في مصر هي الضمانة، وهي صاحبة السلطان الفعلي، دون أن نغفل تنامي قوة المجتمع المدني، والرأي العام المصري الذي كان رَفَض حكم العسكر، وطالب بالإسراع في تسليم السلطة، فإنَّ الوضع في سورية مختلف جدا.
إذ على الرغم من أن المؤسسة الأمنية هي الذراع الأقوى في الدولة، فإن الطبقة السياسية، وعلى رأسها بشار والمقربون منه، ملتحمون بهذه المؤسسة الأمنية التحاما عضويا، ولذلك ظلت النواة الصُّلْبة في الجيش، والأجهزة الأمنية بعيدةً عن التصدع الواسع؛ فضلا عن التخلي، بالكليَّة، عن الرئيس، كما فعل الجيش المصري، مع مبارك، حين التقت التقديرات المحلية والأمريكية، على أنه لم يعد قادرا على البقاء، وسط الغضب العارم الذي انتفض في وجهه، مُتَوَّجا بنداء quot; ارحلquot;.
وبغض النظر عن أسباب هذا الالتحام، هل هو التحامٌ طائفي، أم مصلحي مغلَّفٌ بالطائفية؟ وبغض النظر عن الروافد التي ظلت ترفد النظام من خارج سورية، عالميا، وإقليميا، فإن النتيجة التي أملتْها تطوراتُ المواجهة مع النظام، كانت الانتقال من النضال السلمي، إلى الكفاح المسلح، وسط غياب، أو يكاد، لجسمٍ سياسي يمثل الناقمين على النظام، ووسط غياب، أو يكاد، لحياةٍ سياسية، فكرية، خارج إطار النظام ومؤسساته.
ومن هنا فقد أضحت الثورة، وبوجهها المسلح، تغليبا، هي التي تصنع الحالةَ الفكرية والسياسية الراهنة، وهي التي تشكل توجهات المنخرطين في الثورة، علما، أن الكثيرين منهم، لم يكونوا تحرَّكوا، أو ثاروا، إلا طلبا للحرية والكرامة والعيش المتساوي في وطنهم.. ثم صارت آراؤهم تتشكل، في خضم الثورة.
ومن هنا أيضا نفهم النجاح الملحوظ الذي حققته quot;جبهةُ النصرةquot; ولا سيما في الريف السوري، فقد صادفت أرضا بكرا، لم تنصهر في خطاب البعث، انصهارا حقيقيا، وساعد الجبهةَ في ذلك، الأحوالُ المعيشية القاسية، حيث تتكفل في توفير الحاجات الضرورية من الطعام، وتشرف على توزيع الخبز على الناس في المناطق quot;المحررةquot;.
وفي المحصلة فإن الأقطار العربية التي شهدت حراكا شعبيا، لَمَّا تستكمل عناصرَ الثورة، بعد، ولكنها تبحث عنها، وليست المجتمعاتُ العربية، على سويَّة واحدة، من حيث النضجُ الفكري؛ بسبب اختلاف طبيعة النظم الحاكمة، التي إما سمحت بقدر من التفاعل، خارجَ نطاقها، كما المصري، وإما أنها استبدَّت بالحالة الفكرية، كما نظام الأسد، فإذا سقط النظام، بخطابه الفكري، انكشف المشهدُ عن مفاجآت في حجم القوى المؤهلة للصعود.
وإذا كانت مصر قد شهدت، ولا تزال، كل هذه التناقضات المعيقة عن التقدم، فإن المتوقع من الناحية النظرية أن تكون تحديات النظام السياسي الجديد أكبر، في سورية، إذا أراد الانفتاحَ على الشرائح الاجتماعية المختلفة، والوصول إلى تمثيلها؛ فثمة اختلافات جذرية في أساس الدولة، والتصورات عن طبيعتها، ومرجعيتها، وكلما طال أمدُ المواجهة تعمق هذا الخلافُ والتناقض.
وقد تكون هذه من ضمن الأسباب المهمة التي تدفع أمريكا والغرب وروسيا إلى الإسراع في توليف حلٍّ سياسي وسطي في سورية.
وعودا على بدء، فإن المسألة أكبر من خبرة منقوصة في الحكام، إنها خبرة منقوصة، أكبر، وأهم، في المحكومين، والمجتمعات.
[email protected]
التعليقات