حذر مدير جهاز الاستخبارات الداخلية البريطاني laquo;إم.آي 5raquo; جوناثان إيفانز، من أنَّlaquo;القاعدةraquo; تحاول العودة، بقوة للعالم العربي، مستغلة الاضطرابات الأمنية والسياسية التي تبعت الثورات العربية.
فما فرص laquo;القاعدةraquo; للاستفادة من غياب القبضة الشديدة للأنظمة الاستبدادية البوليسية؟
وما قدرة القاعدة على كسر الحاجز الاجتماعي والمجتمعي في البلدان العربية التي هي، في الغالب، حديثة عهد بهذا النوع من الخطاب الفكري؟
في بداية التظاهرات الحاشدة التي تصاعدت حتى أسقطت نظامَ زين العابدين في تونس، ومبارك، في القاهرة، وحتى اليمن، توالت الاستنتاجات بأنَّ هذا الربيع قد غطت خضرتُه، وعَبَقُ أفكاره الحرة والمدَنيَّة على نهج القاعدة الدموي، أو (الجهادي).
وكان الجامع المشترك بين هذه البلدان الثلاثة أنَّ طريقة التغيير السلمي قد آتتْ أُكلَها، وأذهلت، ولا سيما في تونس، ومصر، العالمَ، بقوتها السحرية التي برهنت على قوة المدِّ الشبابي المتأهل بأدوات التغيير السلمية، لتغييرات سياسية شاملة.
في حين لم تجنِ laquo;القاعدةraquo; في الغالب، سوى النبذ العالمي، ولم تجلب للبلاد التي نشطت فيها، أو استضافتها، كأفغانستان، سوى الحروب، والدمار، ولم تحرز من التأييد الشعبي والنخبوي في المجتمعات العربية، إلا هامشا محدودا.
سورية والانعطافة الحادة:
ولكن بداية التحول الحقيقية كانت مع تطورات الأزمة السورية، حين لم تستطع القوى المعارضة للنظام الاستمرار في النهج السلمي، فتولد laquo;الجيش الحرraquo; ثم برزت laquo;جبهة النصرة raquo;القريبة من القاعدة فكريا، وعمليا، إن لم تكن فرعا منه تنظيميا.
لا تختلف سورية، جوهريا، في طبيعة الإسلام الذي تعتنقه غالبيتُها، والسمة الغالبة عليه هي السمة التقليدية التَّعبُّدية، الشعائرية، مع التزامات بأساسياتٍ أخلاقية.
وتاريخيا وجدت جماعةُ الإخوان المسلمين تربةً خصبة، وحاضنةً اجتماعية، لكنها سرعان ما أُجهضت بالمعالجة الأمنية التي دفعت نظام حافظ الأسد، إلى ارتكاب مجازر راح ضحيتها عشرات الآلاف.
ولكن شراسة النظام الأسدي، وطائفيته، ساعدت على إذكاء الروح الجهادية في البيئة السورية، في الأرياف، وفي المدن، وزاد من الالتفاف الشعبي حول laquo;جبهة النصرةraquo; تخاذلُ الدول الغربية، وعلى رأسها أمريكا، عن دعم الذين صاروا في مواجهةٍ لا رجعة عنها مع نظام لم يتعود معارضا، عنيدا، فضلا، عن معارض، مسلح، يصر، ويعلن أنه لا عودة حتى إسقاط رأس النظام، بشار، وكل طاقمه السياسي والأمني.
وكان إعلانُ واشنطن laquo; جبهةَ النصرةraquo; منظمةً إرهابية الفتيلَ الذي ألهب مشاعر السوريين، المتعاطفين معها، أصلا، ولم يجد المعارضون المتوجسون من تناميها، غير إعلان تعاطفهم معها؛ فكانت جمعة laquo; لا إرهاب إلا إرهاب الأسدraquo; ردا معانِدا لواشنطن، رحبت به الجبهة، ورأت في موقف أمريكا غير الموثوق بها، والمتآكلة الصُّدْقيَّة، حتى في صفوف العلمانيين الثوار، والمدنيين، مُغذِّيا لها، اجتماعيا، بعد أن حققت إنجازاتٍ ميدانية، وشُهِد لأفرادها بالشجاعة الفائقة والعمليات النوعية، والتصدي للمواجهة في أخطر الحالات، وأكثر المواقع تقدما.
وتتحدث الأخبار عن اعتمادها على ما تغنمه من أسلحة الجيش النظامي، وذخائره؛ فلا حاجة لها ماسةً للسلاح من الخارج، عبر تركيا، أو غيرها، فلا فرص كبيرة لابتزازها.
واشنطن والوضع الحرج:
وهنا تشكلت الدائرة الشريرة، أمريكيا؛ فهي من الناحية الاستراتيجية، لا يمكن أن تدعم تنحِّي الأسد، وتفكيك نظامه، إذا كان البديل، هو الجماعات الإسلامية الراديكالية والجهادية.
والمشكلة التي تعاني منها، سورية، أكثر من بلدان الربيع الأخرى، هي غياب الجسم السياسي المُعارِض، والأفكار المَدَنيَّة المُبَلْوَرة، خارج نطاق laquo;البعثraquo; في مقابل حيوية الشعب السوري، ووعيه، وطاقته العالية، قياسا، بالشعب الليبي الذي، وإنْ اشترك مع السوريين في حرمانه من الهياكل الحزبية المعارضة، والبيئة الاجتماعية المتحررة من القذافي، إلا أن بناءه القبلي، وطبيعته الديمغرافية الموزعة على مِساحاتٍ واسعة، والفترة غير الطويلة، نسبيا، التي أُسقط فيها القذافي، سمحت بالحدِّ من توسع الجماعات الجهادية، في ليبيا، وإمكان حصرها، وحتى تثوير قسم من الليبيين، ضدها...
وكانت تلك الحماسة والإجماع الدولي، والغربي نابعةً من السهولة النسبية في إطاحة القذافي؛ بسبب انعزال نظامه، وتطرفه، سياسيا، وجغرافيا، إذا ما قيس، بالدولة السورية المتشابكة العلاقات، والمركزية الموضع والموقع في المنطقة العربية، وما يعنيه ذلك، من ارتدادات، على كل الدول المجاورة، وعلى التوازنات الإقليمية.
ولكن التردد الغربي، في دعم المعارضة السورية، بالسلاح، والامتناع حتى عن التلويح بالتدخل العسكري، وحتى الضغط على الدول العربية المتعاطفة مع الثوار، للحد من دعمها لهم، كلُّ ذلك أطال أمدَ المواجهات الفظيعة على المستوى الإنساني، والمثيرة للنزعات الدينية، وكما أفادت الجماعاتُ الدينية، وlaquo;جبهةُ النصرةraquo; من وصمها بالإرهاب، فإنها تستفيد من إطالة أمد المواجهة؛ لأنها تساعد في إيقاظ الشعور الديني، والعودة إلى المكوِّنات الأولى.
مقابلة مع مصر:
ولو قابلنا بين هذه الحالة السورية الصراعية، والحالة المصرية، مثلا، فإن فروقا تظهر؛ إذ طبيعة الخصم السياسي المتمثل في القوى المدنية والليبرالية، لا تستثير في الشعب المصري تلك الروحَ الجهادية؛ لأنَّ قوى المعارضة، سلميةُ الطابع، فضلا عن كونها تنتبه إلى ضرورة منع تكريس التخندق الديني، وتحاول حرمان laquo;الإخوان المسلمينraquo; ومن يساندهم من القوى السلفية، من سلاح الدين؛ تمهيدا لجرِّ (الإسلاميين) إلى حلبة الصراع الاجتماعي المعيشي، والهموم التنموية، والتحديات الاقتصادية والتعليمية.
وثمة عن فرق مهم، بين مصر وسورية يتمثل في عراقة القوى المدنية، وتواصُل عملها ونضالاتها، في فترة ما بعد الاستقلال، وظلت أصوات تلك الأحزاب والشخصيات مسموعة، ولم يتمكن مبارك من منعها؛ فَسمَح بهامشٍ من الحرية، في الصحافة، وفي المجتمع.
أما نظامُ الأسد فأكثرُ ما يجسد النُّظمَ الشمولية التي تحاول الاستحواذ على فكر المجتمع وشعوره؛ فإذا تهددها خطر، أسفرت عن وجه عَقَديٍّ، وطائفي، قبيح، يستدعي بالضرورة، نقيضَه، دماً بِدَم، وهَدْماً بِهَدْم.
ولا بد من التفريق بين خطاب فكري، أو ديني، يستمدُّ وجاهتَه من أدواته الفكرية والعلاجية، وبين خطابٍ يترعرع لأسباب خارجة عنه، تُغذّيه، كلما اشتدت.
صحيح، أنّ هذه العوامل تسمح، وتُهيِّء لتقبُّل هذا الخطاب، ولا سيما أنه يحاول البناءَ على المعتقد الروحي، ولكن هذه الفرصة لا تتوفر خارج نطاق عواملها.
هذا مع عدم إغفال عوامل أخرى غير الحالة الصراعية الدينية، أو الطائفية، تساعد على ازدهار خطاب laquo;القاعدةraquo; كالشعور بالحرمان والفقر، والتهميش، كما هو شعور قسم ملحوظ من شبه جزيرة سيناء في مصر، حيث تتطرف هذه المنطقة، عن المركز، فكريا، واقتصاديا، وسياسيا، وحتى أمنيا؛ ما يسمح ببيئة مساعدةٍ للجماعات القريبة من laquo; القاعدةraquo; وكذلك، في كلِّ منطقة تشهد فراغا، أو تَظَلُّماتٍ متأزمة، كما في شمال مالي، وكما في بعض مناطق اليمن.
التعليقات