في رأيي أننا في العالم العربي، غالبا، لا نتحاور، ولكننا نتقاتلُ بالكلمات!
فهل المحاورات التي تجري في العالم العربي اليوم، ومصر، هي التي تقرر الرأي؟ وهل الفكرة الصائبة هي المُنتظَرة، بغض النظر عن قائلها؟ أم أنَّ الآراء مُقرَّرةٌ، سلفا، ولا تفكير في العودة عنها، أو حتى إخضاعها للفحص والنقاش؟

وما حجم العناصر غير الفكرية في تشكيل المشهد السياسي، من مصالح داخلية وخارجية؟
وما حجم المُسلَّمات الفكرية عند كل طرف؟ وما دورها في إعاقة سُبُلَ الحوار، وغَلْق مسالكه؟
كيف يتحقق معنى الحوار في جو مشحون، ومحتقن بالاتهامات والتوجس؟!

الحالة المصرية؟
ويمكن أن ننظر في الحالة المصرية، بوصفها حالةَ ما بعد الثورة، حيث المحاولةُ جاريةٌ لتجسيد أهداف الثورة، وإعادة بناء مؤسسات الدولة، بما يحقق حكم الشعب، ويُخلِّص البلاد من استحواذ جماعات المصالح، أو حماية الدولة من استئثار الجماعات الإسلامية، كما تتخوف جبهة الإنقاذ الوطني المعارضة.
ما أسُّ المشكلة؟
المشكلة الأساسية أن هذا الهدف (إعادة بناء الدولة، بما يحقق أهداف الثورة) عظيم، ويتطلب جوا هادئا، وقبل ذلك تراكما توافقيا من الأعراف الفكرية والسياسية والقواعد الفكرية الكلية الجامعة، وهذا ما حُرمت مصر، وغيرُها من فرص تكوينه، في مداه الزمني الطبيعي، فليس من السهل إنضاجُه، بهذا الظرف، وفي هذا الوقت القصير، ولا سيما أن القوى الجماهيرية والسياسية التي أسقطت مبارك إنما تقاطعت على التخلص منه، فقط، ولم تنضج قناعات مشتركة لشكل الحياة الجديدة... فربما كانت أهداف مصر البعيدة محتاجة إلى مرحلة انتقالية، تتيح فرصةً للتفاعل الفكري. وفي المرحلة الراهنة، تحتاج إلى حكومةِ أزمة تتصدى لرعاية المصالح الضرورية، أولا، فثمة مخاوف جدية من كارثة اقتصادية، وكلما طال هذا الارتباك، أو أُعيدت الأمور إلى نقطة الصفر، كانت هذه الكارثة أقرب.

فها هو مشروع الدستور الذي بُذل جهدٌ في جعله متوسطا، لم يحظَ بالتوافق الكافي، وهو يتأرجح، بين الرفض، أو القبول بأغلبية ضئيلة، وهو أمر يعكس حجم الانقسام السياسي، أولا، وقوة كل فريق في الشارع، كما يشي بغياب القواسم المشتركة الفكرية الكافية لإنشاء دستور جمعي.

فهل الحوارُ يَجْسِرُ الفجوات؟
الحوار حالة غير ممكنة، بمعناها الحقيقي، في الكثير من الحالات العربية؛ ذلك أن لا مرجعيةَ يَقْبَلُ بها المتحاورون، ولا تفسيرَ متقاربا لهذه المرجعية، إنْ وُجدت، ولا جو مناسبا لها، ولا مناخ للحوار الهادىء الهادف إلى تجلية الفكرة، وتمحيص الرأي، بالرأي، ولا تَقبُّلٌ شخصيٌّ من (المحاور) لمحاوِره، ولا حتى استهداف لإقناعه، أو إقناع التيار الذي ينتمي إليه، كما تفترض العمليةُ الحوارية، بقدر ما هو الاستظهار عليه، وإظهار ضعف دعاويه، فالحوار هنا ذريعة سياسية، لغيره..!

هذا ما يحدث تقريبا في مصر، مثلا، بين التيارين المنقسمين عميقا، سياسيا وفكريا.. في البرامج الحوارية يبلغ الغضبُ الذي يعكس الاحتقانَ درجاتٍ مقلقة، من أن تكون الطرق تنغلق أمام التفاهم، ولا سيما في أعقاب الاشتباكات التي وقعت في الأسابيع والأيام الأخيرة، على خلفية خوف كلِّ طرف من الانتقاص من دوره، وحقه في تقرير رأيه، والمشاركة، بحسب حجمه.

وتختلط في المشهد الحواري المضامين الدينية بالوطنية والديمقراطية، مع المخاوف من المؤامرات الخارجية، والإسرائيلية.

كما يستند الحوار إلى قاعدة واسعة وعميقة من انعدام، أو ضعف الثقة، من كل طرف بالطرف الآخر...
ويقترب الحوار والجدل من أن يكون سُفسطائيا لا يستخدم للوصول إلى الحقيقة، بقدر ما هو يستهدف مآرب خاصة!

الخطورة هنا أنه عندما يَفْقدُ الحوارُ جدواه ومعناه، وتفقد السبل السلمية قدرتَها على الفعل؛ فلا بد أن يزيد إغراء (السُّبُل) النقيضة، سبلَ الحسم العنفي؛ استسهالا لما ليس هو بالسهل!

وبالطبع، يُفترض وضع الحوار في بيئته وسياقه، فهو يحتاج إلى بيئة ثقافية وأرضية تسمح بتقبل نتائجه، وقاعدة فكرية كلية وعامة تشكل هُويّة البلد والناس، وآليات تنبثق منها لحل الأزمات...
الحوار جزء من كُلّ:
والحوار ليس هو كل شيء؛ فلا يجوز أن يُحمَّلَ فوق ما يَحْتمِل، إنه يحتاج إلى تقاليد وأعراف ومجتمعا قائما بالمعنى للحقيقي من علاقات متماسكة ممتدة.

الحوار لا يسدُّ مَسدَّ القوانين، ولا ثقافة احترام الآخرين، وثقافة النزاهة في تناول القضايا الخلافية والبعد عن الأحقاد والشخصنة، وتَصيُّد الأخطاء، هو بحاجة إلى مستوى فكري وتعليمي راقٍ يُميِّز الحجة حين تظهر، وإعلام غير مضلل، يكبر الرأي المفيد، ولا يطمس، ويبلبل.

إن الحوار حصيلة بناء مجتمعي وصيرورة حضارية تحسن إدارة الخلاف، وتفيد من هذه الاختلافات.

لكن الأزمة في المجتمع المصري بصراحة، والعربي بعامة أنه - كما قيل- حُرم من فرصة التفاعل والحراك الفكري الجاد على مدى الحكم العسكري، واعتاد ممارسات تسلطية انتقلت من السياسيين، ومن السلطة، إلى المجتمع ومن الحزب الحاكم إلى الأحزاب المعارضة، حتى التي طالما انتقدته بسبب ذلك...

فالمسألة أكبر من مجرد افتقادنا إلى آداب الحوار، إذ ثمة تناقضات عميقة تعني في النهاية أن حوارنا يجري بلا أرضية، يتنازع المتحاورين التدينُ والتحرر الفكري...والتمدن والحضارة من جهة والبداوة، فكثيرا من الناس أعرابٌ في تفكيرهم، وتعاملاتهم، لا عربا...فهل إذا فقدت أرضية الحوار وجدواه يكون الاحتراب هو المآل؟

الحرب الأهلية:
عُرفت مصر بتجانسها، واعتدال مزاج أبنائها، وأنها سيدة الحلول الوسطى، كما يقول جمال حمدان...
وهي، وإن شهدت أعمالَ عنفٍ من جماعات إسلامية جهادية، ولكنها لم تشهد في العصر الحديث حربا أهلية، وما أبعدها عن ذلك! وما أحراها بالبعد!

وهناك فرق بين الحالة العُنفيّة التي تورطت فيها جماعات إسلامية، ثم عَدَلتْ، معظمُها عنها، في مراجعاتها، إلى العمل السياسي والدّعَوي، وبين تورط الفريقين اللذين يتناقضان، الآن، حول مستقبل مصر السياسي والاجتماعي، فالأولى كانت موجهة ضد الدولة، والنظام السياسي، وإن كان بعضها طال بعض الشخصيات الأدبية والثقافية، والسياح، ولكن لم تكن تلك الجماعات قادرة، أو راغبة، في فتح الصراع مع شرائح اجتماعية، أو تيارات فكرية حتى لو ناقضتها، وكانت قبضة الدولة تسمح بتحجيم تلك الأعمال...

أما اليوم فالوضع مختلف، بعد أن أصبح الطرفان: الديني والمدني على حالة من التنازع على السلطة، دون أن يتمكن أحدهما من حسم الشارع لصالحه، وإن كان الإخوان ومن حالفهم من السلفيين لا يزالون أكثر قدرة على التأثير المنظم وأقرب إلى التجانس الفكري والسياسي، في حين أن نقطة ضعف مكونات جبهة الإنقاذ تكمن في افتقارها إلى برنامج سياسي اجتماعي موحد، أو مبلور، وإنما يجمعهم الحرص على منع تفرد الإسلاميين بالدولة والمجتمع...

ومع ذلك فإن هذه المتناقضات المتباعدة قد تكون هي المقدمة الضرورية للإثمار الفكري، وَفْقا لفلسفة هيجل التي ترى أن الفكر جدليُّ الطابَع، وأنه يسير على إيقاع ثلاثي، من إيجاب إلى سلب إلى تأليف بينهما، أو الفكرة ونقيضها والمركب.
فمن الضروري أن يقود القصورُ في الأفكار الحالية والبرامج والأحزاب إلى تَشكُّل أفكارٍ جديدة أفضل، وأحزاب سياسية مؤهلة لمواكبة ذاك التطور، وزيادته.
أخيرا، يُنسب إلى جنكيز خان القول: laquo;فتح العالم على ظهور الخيول سهل، لكن الصعب هو أنْ تنزل وتحكمهraquo;.
[email protected].