ربما نلحظ، أننا، نحن العرب- ومن فَرْط ما عانينا- سريعو التقلُّب، نسرع في التفاؤل، ونعجِّل في التشاؤم، والانتكاس.. ونبالغ في مقدار العاطفة في الحالتين.
وهذه سمة من سمات (التفكير) العامة عندنا، ذلك التفكير المسكون بالمخاوف المبالغ بها، وبالشكوك، والتشكيك، كما يقال في المثل الشعبي: laquo;المقروص يخاف من جرّة الحبلraquo;.
وعلى رغم الخلاف على محمد مرسي، والتشكيك بتمثيله الثورة المصرية فإن فوز أحمد شفيق كان من الممكن أن يسدد ضربة قوية للشعوب العربية الآملة في تدشين مرحلة جديدة، تقطع مع العهد القديم في نمط الحكم الذي مثلَّه مبارك، وشفيق رآه مثله الأعلى... هذا لا يعني أن فئاتٍ من العرب لا ترى في فوز ممثل الإخوان المسلمين تسليما لمصر إليهم، وإلى مرشدهم الذي له على مرسي، وغيره، حق الطاعة؛ فيتساءلون من سيحكم مصر؟
لكن المسألة الجديرة بالملاحظة هي أن هذا الرئيس، في حال تأكدَّ فوزُه، سوف يجد ما يعادله، ومن يحد من صلاحياته؛ فلن تكون مطلقة... ولا سيما وأن الدستور لمَّا يُنجَز بعد، والبرلمان الذي كان الإخوان والسلفيون يمثلون فيه الأكثرية قد تقرر حلُّه، وبعد حل البرلمان الذي كانت الأغلبية فيه من (الإسلاميين) يتعزز الرأي الداعي إلى تشكيل جمعية تأسيسية للدستور لا يمثل (الإسلاميون) فيها أغلبية.
وكان آخرَ المُقيِّدات الموادُ التي أعلنها المجلسُ العسكري، مكملةً للإعلان الدستوري، ورهنت الموافقة على إعلان الحرب، أو تدخل القوات المسلحة في مهام حفظ الأمن، وحماية مؤسسات الدولة من أية اضطرابات قد تنشأ، بموافقة laquo;المجلس الأعلى للقوات المسلحةraquo;؛ ما يعني، فعليا، أن الرئيس لن يكون القائد الأعلى للقوات المسلحة.
صحيح أن هنالك رفضا من قوى ثورية، كحركة 6 أبريل، ورموز قيادية مثل محمد البرادعي وعبد المنعم أبو الفتوح لهذه المواد؛ بحجة عسكرة الدولة، وسلب صلاحيات الرئيس، ولكن قد يكون من الصعب والمستبعد أن يسلِّم المجلس العسكري صلاحيات إعلان الحرب، للرئيس، وحده، في هذه المرحلة الانتقالية التي تمر بها مصر.
وهناك سلطة القضاء التي لن يُسمح للسلطة التنفيذية بالاعتداء على صلاحياتها، بل الذي حصل هو أن أحكام المحكمة الدستورية العليا هي التي قضت ببطلان مجلس الشعب، فكانت فوقه، وقد ينسحب البطلان، كما هو مُرجَّح، على مجلس الشورى، وإذا كان بعض القضاة في عهد مبارك كانوا ينحازون إلى توجهاته فإن افتقاد الإخوان، أو غيرهم، لتلك السيطرة التي كانت لمبارك سيحد من صلاحياتهم، ويحصرها.
ولعل هذا الوضع الذي قد ينشأ في مصر أن يكون الأقرب إلى المعقول، من الناحية الواقعية، حيث توزيع السلطات، واستبقاء القرارات الخطيرة بعيدة عن تفرد جهة واحدة، ولا سيما، وأن الشعب المصري منقسم انقساما كبيرا أظهرته النتائجُ غير النهائية لانتخابات جولة الإعادة، فالفروق بين مرسي وشفيق ليست كبيرة، فضلا عن القوى الأخرى التي عبرت عن رأيها في تفضيل أحد المرشحين الخاسرين، ومن أبرزهم حمدين صباحي، وعبد المنعم أبو الفتوح.
وحتى laquo;الإخوانraquo; فإنه ليس من مصلحتهم الاستفراد برئاسة مصر، وحكومتها، وبرلمانها؛ لما تواجهه مصر من أزمات عميقة ستتحملها هذه الجماعة وحدها، وتتحمل مسؤولية الفشل في حلها.
صحيح أن التعديلات الجوهرية في مكونات المشهد السياسي المصري، كحل البرلمان، وتخويل الجيش اعتقال المدنيين، وإبطال قانون العزل السياسي، والمواد المكملة للإعلان الدستوري، تلقى معارضة، لكنها تؤشر على توجهات الدولة المصرية، أو من يقفون على رأس السلطة الحقيقية فيها، وهم المؤسسة العسكرية، والوسط السياسي التقليدي، ولم تنجح الثورة بعد في إنتاج سلطة تضاهيها، أو في خلق وسط سياسي جديد، وحتى تشكيلات سياسية متمرسة.
فمصر في المرحلة المقبلة تحاول أن تُكَوِّن جمهوريتها الثانية، والتأسيس لحياة سياسية واجتماعية واقتصادية جديدة، مصر تحاول أولا أن تكون.
فإذا كانت، وأضحت لها سياسة خارجية متجانسة، مدعومة بقواها الحقيقية فإن تأثيرها الفعلي في محيطها العربي والإقليمي سيكون مؤكدا.
وهناك ثوابت في سياسة الدولة الخارجية لا يقوى الإخوان المسلمون على تجاوزها، على الأقل في المرحلة الراهنة، والمنظورة، وهم اعترافا منهم بذلك، أكدوا غير مرة، على الالتزام بها، ومنها التزامات دولية، ومعاهدات ثنائية، وأهمهاlaquo; كامب ديفيدraquo;.
فالأرجح أننا لن نشهد تغيراتٍ عميقةً في السياسة الخارجية، فلمصر مثلا، بعد الروابط التقليدية، مصالح مع الدول العربية، وهي حريصة عليها، ونتذكر كيف حرصت مصر، ومجلس الشعب، على احتواء الأزمة العابرة التي نشأت مع السعودية، في مايو/أيار الفائت، سريعا؛ وصرح رئيس المجلس، محمد الكتاتني، يومها:laquo;أن مصر بعد الثورة تريد أن تكون علاقاتها مع شقيقتها السعودية أعمق وأكبر وأفضل مما كانت عليه، وأن الجالية المصرية في السعودية والسعوديين في مصر كلهم يشعرون أنهم في بلدهم الثاني لافتا النظر إلى أن حجم الاستثمارات المصرية في السعودية والاستثمارات السعودية في مصر تدل على مدى الترابط والتعاون المشترك.raquo;
فلا يتوقع أن تميل القاهرة أكثر إلى طهران، ولا سيما، بعد الفرز الذي أحدثته laquo;الثورةraquo; في سورية، والموقف الرسمي المصري يساند الشعب السوري في مطالبه، وضد القتل الوحشي الذي يمارسه نظام الأسد المتحالف مع إيران.
وأما تأثير ما تمخضت عنه الثورة المصرية حتى الآن، وآخرها فوز مرشح الإخوان، مرسي، على فَرَض ثبوته، على الناحية المعنوية على الشعوب العربية الطامحة بالتغيير، ولا سيما في سورية، فهو متنوع، ومتفاوت، بحسب المرجعية الفكرية والسياسية، ولكن في الإجمال يمكن أن يعد ما حصل في مصر مؤشرا على نجاح جزئي، لم يكتمل بعد، وهذا طبيعي، إذ مسار الثورات مُعَرَّض للتعرج، والتذبذب، وَفْق صيرورة تقدمية، لا رجوع عنها.
وليس بالضرورة أن يأخذ المنحى في سورية، بعد تفكيك النظام الحالي، نفس المنحى الذي أخذه في مصر؛ فلكل بلد ظروفُه، ومكوناته، وتقاليده السياسة الخاصة.
وأما تأثير فوز مرسي على القضية الفلسطينية فلا يُتوقع أن يكون جوهريا؛ للأسباب السابق ذكرُها، والمتعلقة بالالتزام باتفاقية السلام مع إسرائيل، وبعلاقات مصر العربية، والدولية، لكن ذلك لا يمنع أن يكون ثمة تغير في الخطاب، وفي بعض التفصيلات المتعلقة بقطاع غزة، وتسهيل التنقل والعبور، مع علاقة أكثر دفئا بحماس، فيما لا يصيب الاستراتيجية المصرية الخارجية.
ويبقى السؤال عن تأثير وصول الإخوان إلى الرئاسة على مشروع laquo;الدولة الإسلاميةraquo; وهنا نستذكر تصريحات القيادي في حماس، محمود الزهار الذي قال فيها:laquo; إن مقر المجلس التشريعي في مدينة غزة laquo;سيكون عاصمة الدولة الإسلامية الكبرىraquo;. ورأى أن laquo;المرحلة المقبلة ستشهد دورة حضارية جديدة ستزول فيها الحدودraquo; التي وضعها الاحتلال laquo;لأن تلك الحدود لا تحدد الجنسيات والهوياتraquo;. فهل يقرب هذا laquo;الوصول الإخوانيraquo; هذه الدولة؟
ليست هذه العجالة كافية لإعطاء هذا السؤال حقه، ولكن قد يكون من التسرع، والتفكير الرغبوي الحكم بنتيجة محققة لذلك؛ لأن التحدي الأكبر للإخوان أن ينجحوا في ظل هذه المعادلة الصعبة، وفي ظل أزمات مستعصية ومتراكمة، مجرد نجاح.
ومن الواضح أن الهم الأكبر لهم سيكون الهم الداخلي، وعليه يتحدد مصيرهم ومستقبلهم السياسي، وقد يحاولون تكرار ما فعله laquo;حزب العدالة والتنميةraquo; ذو الخلفية الإسلامية، في تركيا، حيث اتخذوا من النجاحات والإنجازات الاقتصادية والاجتماعية معبرا للسلطة شبه الكاملة على الدولة؛ فهل يكون مرسي أردوغان مصر؟
[email protected].
التعليقات