تطرح النتائج غير الرسمية، لانتخابات الرئاسة المصرية، مخاوف وتساؤلات عديدة، فضلا عما وصفها البعض بالصدمة؛ بسبب الاقتراب الشديد للمرشح المحسوب على النظام السابق، أحمد شفيق، من الفوز.

ولعل أول بواعث الصدمة والخوف معا يكمن في الخطر على الثورة، وفي ما تعنيه النسبة العالية التي حققها شفيق من أسهم مؤثرة لا تزال، للنظام السابق، في مصر.

وما كان لهذا أن يكون مفاجئا؛ لأن النظام السابق، وإن أُقصيَ طاقمُه الرئاسي عن الحكم، ممثلا في الرئيس المُجْبَر على التنحي، حسني مبارك، ووزرائه، ومعاونيه المباشرين، فإن الكتلة الصلبة المتمثلة في المؤسسة العسكرية التي على رأسها قيادات تشترك مع مبارك، على الأقل، في السياسية الخارجية لمصر، لم تتغير عقليتُها، وما تفككت قناعاتُها، ولا تغيرت توجهاتُها في شكل العلاقة مع أمريكا وإسرائيل، والعالم.

وكذلك الجزء الذي لا يقل أهمية في تلك الكتلة الصلبة المتمثلة فيما يمكن أن نطلق عليه laquo;المؤسسة الاقتصاديةraquo; المتمثلة فيمن يستحوذون على معظم رأس المال في مصر، والممسكين، حتى الآن، بعصب الاقتصاد المصري، ولهم تأثير ظاهر، وخفي، على وسائل الإعلام.

هذه الطبقة لا يمكن لها أن تُعَرِّض تلك المكتسبات والامتيازات العالية إلى رياح الثورة، ولا يمكن أن لا تُتَرجَم في حِصَّةٍ تتناسب مع حجمها في الدولة.

هذا منطق الصراع في المجتمعات بين القوى المختلفة، فما الأحزاب والقوى التي تمثل الثورة أو التي تتوافق معها، وتطمح إلى الصعود السياسي على أكتافها إلا طرف في مقابل طرف عنيد، هو النظام السابق، ممثلا، في متنفذين في العسكر، وأقوياء في المال، والإعلام، وثقافة حاضنة رسَّخها حكم ثلاثة عقود، فضلا عن الأجواء غير المساعدة التي عاشتها مصر بعد الثورة، وكبحت بعض الآمال، لعامة الناس الذين اشتاقوا إلى الاستقرار، وتعبوا من الخَضَّات المتلاحقة، ومن الإرباك الشديد الذي اخترق حياتهم اليومية.

بالطبع هذا يكشف عن نضج منقوص في الحالة الاجتماعية للثورة الحقيقية التي تطيح، ليس بطاقم الحكم السابق، فقط، وإنما تستند إلى وعي حقيقي على مصالح الفئة الكبرى في الشعب المصري، مُترجَما إلى وعي سياسي وإرادة سياسية غير مُعرَّضَة للتصدع.

وهذه الحالة الثورية الاجتماعية هي المدماك الأول لحالة دستورية وسياسية مؤسسة وذات قدرات تمثلية، وضاغطة، في قبالة قوى المصالح الخاصة، والارتهانات الخارجية.

ولكن من الناحية المباشرة يمكن أن يدل الموقف الآخذ بالتَّشكُّل، سريعا، من القوى المناهضة للنظام السابق، على عزم أكيد لمنع إعادة إنتاج ذلك النظام.

وبرغم أن تخلي المجلس العسكري، ومن يتحالف معه، من أرباب المال، عن كامل السلطة أمر مستبعد، حتى بعد فوز مرشح معادٍ للنظام السابق، فإن تقبُّل المصريين لشفيق رئيسا، وكأن أمرا لم يكن، أمرٌ يصعب تصوره، كذلك، فقد تكون ثمة مساومات ضرورية للمساومة بين الفريقين، وفي جعبة الفريق غير المتحمس للثورة، دليل انتخابي واضح على حجم تأثيره، ومقدار ما يملك من نفوذ، تخوله بالطالبة بالاحتفاظ بمكتسباته، ومجالاتٍ لنفوذه.

فلا بد من تفصيل التوقعات على قدر الوقائع، واستبقاء الآمال بالتغيير الكامل إلى حالة ضرورية من الصيرورة الاجتماعية تستغرق وقتا، وتتخطى تحديات، وعقبات داخلية، وخارجية.

هذه الحالة لن تكتمل بتحالف القوى المساندة للثورة، ودعمها لمرشح الإخوان المسلمين، محمد مرسي(على فَرَض ثبوت تفوقه) وذلك بالقفز على الخلافات، وعلى المخاوف، أو بضمانات تؤخذ من laquo;الإخوانraquo; وإنما يتوقع لتلك الحالة أن تكتسب، حينها، زخما أكبر، نحو نظام أكثر تمثيلا للشعب المصري، وإرادته الحقيقية.

وهنا نستذكر ما يقال عن تزييف لإرادة الناخب المصري، ووعيه، وهو كلام لا يخلو من صحة، لكنه تزييف مشفوع بالضرب على وتر الاحتياجات الضرورية للمواطن المصري المنهك، من قبل الثورة، ثم جاء مخاضها، والاشتباكات التي تخللتها؛ لتزيده إنهاكا.

فحتى يستعيد المواطن فاعليته، ويكون أقدر على الارتقاء بذاته، والإسهام في بناء وطنه، لا بد من ضمانات معيشية، وسد الحاجات الضرورية، أولا، وأن لا يُستمرَّ ابتزازه في لقمة عيشه، هو وأولاده وعائلته.

صحيح، أن تلبية الحاجات الأولية، يقف، مع مطالب الكرامة والحرية، مُقوِّما أساسيا للثورة، ومحفِّزا لها، ولكن كثيرا من أولئك المحرومين من تلك الحقوق لا يمتلكون النَّفَس الطويل، وهذا ربما ما يفسر انتخاب الكثيرين منهم لمن جربوا عليه التلاعب بلقمة عيشهم، أثناء حكم النظام السابق، خاضعين للابتزاز، أو مختارين لمُرٍّ؛ دفعا لما يتوهمونه الأكثر مرارةً!

ومهما يكن من أمر فإن هذا الوضوح في الانقسام بين من يمثل النظام السابق، ومن لا يُحسب عليه، أو من يناهضه، سيجعل laquo;ثورة ينايرraquo; على محك مصيري. ولكن ليس من المعقول، ولا من المقبول، أن ينحاز بعض الناس؛ بدافع من مخاوفهم، من laquo; الإخوانraquo; وحبهم للاستحواذ، إلى دعم المرشح المناقض للجميع؛ فتلك ضربة هادمة للمعبد، ومجهضة لكل القواسم المشتركة.

وليس من عوامل الاستقرار في مصر أن يُتَجاهل ذلك الطوفان البشري العارم الذي أخرجه شعورُه بالظلم والتهميش؛ ثم يُعاد إنتاج طاقم مطابق للطاقم المخلوع؛ فذلك سيكون وصفة إجهاض لا تُحمَد عقباها.

ولعل الأقرب، من حيث الواقع، لا من حيث المأمول، أن تجري مساومات تَرْضِية وسطية، تتوزع بها الأدوار، ويحتفظ فيها كل فريق بنصيب، إلى حين يتمكن الشعب من إنضاج إرادة سياسية، ومؤسسات تمثيلية حقيقية.
[email protected].