يفصل laquo;شارع سوريةraquo; بين المنطقتين المتنازعتين، في طرابلس: laquo;باب التبانةraquo; وlaquo;جبل محسنraquo;، لكن هذا الحجز المكاني، يغدو؛ بحضور الأزمة السورية لهيبا، لا فتيلا، يُخشى أن يمتد إلى لبنان والمنطقة.
ومثلما تتناظر المنطقتان، مكانيا، تتقابل الاتهامات من الطرف المؤيد للثورة السورية، وهم السنة، في المدينة المجاورة لحمص التي تعرضت، ولا تزال لحرب شرسة، والعلويين الذين يؤيدون نظام الأسد.
بالطبع، هذا هو التأطير الظاهر، وإن كان المعيار الطائفي ليس حاسما تماما، حتى في سورية نفسها، إذ لا نزال نسمع عن علويين ينضمون للثورة، من المدنيين والعسكر.
وأما الاتهامات المتناظرة فهي تهمة الدُّوَيْلة السلفية، والدعم العسكري واللوجستي للثورة السورية، تُوَجَّه إلى السنة والسلفيين، وتهمة تصدير الأزمة، وتنفيذ التهديدات التي أعلنها الأسد، بنقل الفوضى إلى خارج سورية، ويُتَّهم العلويون في laquo;جبل محسنraquo; بالمساعدة على تحقيقها، وتعميمها إلى سائر لبنان، ومنه إلى المنطقة.
الخطير في هذا الثَّوَران الطائفي هو أن تُختزل الحياة الاجتماعية والاعتبارات الإنسانية، والمعيشية، لعامة الناس الذين لا يكادون يقوون على توفيرها، في نزاع تخوضه فئة أو فئات، فما أسهل أن تضطرب الحياة من أساسها، في بلد، كلبنان! وغيرُ بعيدةٍ عنه، باقي الأقطار التي لا تتعمق فيها قواسم فكرية مشتركة!
وهنا يلحظ الجميع هشاشة المفاعيل الأخرى، كالفكرية، والثقافية وحتى الطبقية؛ فأين تأثير الفكر الأممي، والليبرالي، وحتى الديني، إلا أن يكون الخطاب الديني ينحصر في الجانب الصراعي الداخلي.
وبما أن التناقضات الطائفية ليست حديثة عهد، في لبنان، مثلا، ومنها الخلافات بين العلويين والسنة، فقد يحق لنا التساؤل: هل تستبطن هذه الخلافاتُ التي تتصاعد حتى الاحتراب، تناميا في تأثير المُعْتَقَد نفسه؟ وهل الرؤية الطائفية للأزمات والصراعات نتيجةٌ طبيعية لزيادة منسوب التديُّن؟
قد يُسارَع بالإجابة بالإيجاب؛ فالسلفيون في طرابلس، مثلا، تجمعٌ ديني يحرص على تعاليم الإسلام ونصوصه. وكذلك الأمر في سورية نفسها، يُسمع الشعار الإسلامي، بوضوح، وتخرج المظاهرات من المساجد، وغير ذلك، مما يدل على حضور الدين بفاعلية.
ليس من السهل فرز العوامل المحركة للثورة، في سورية، وتقدير حجم كل مُحرِّك، ولا يُنكَر تعمق الدين في الوجدان الشعبي؛ فكان طبيعيا أن يطفو ذلك على السطح، ولا سيما في الشدائد والخطر المفضي إلى الموت، أو الاستشهاد.
مع أن هذا الحضور للدين لا يعني بالضرورة أنه، أي الدين، قد تحول إلى قوة تصوغ المواقف السياسية بوعي وقصد، دائمين.
وأما فيما يتعلق بالانقسام الطائفي، كما في لبنان، فقد يكون له بعض الخصوصية؛ إذ إن البلد مركَّبٌ نظامُه السياسي على الطائفية؛ فهو مأزوم طائفيا، تاريخيا، وبنيويا. ومعروف أن أزمات سابقة عديدة كانت توقِظ، بسهولة، تلك التناقضات الطائفية، ومنها، الصراع الذي كان مشتعلا بين السنة ، والعلويين في طرابلس، أيام الصراع بين الفلسطينيين، بقيادة ياسر عرفات، ونظام الأسد، الأب. حيث اختار السنة مناصرة الفلسطينيين، والعلويون انحازوا إلى الأسد.
ولم يكن أحد يتحدث في تلك الفترة عن خطاب وجماعات سلفية ذات تأثير كبير، وحتى يومنا هذا فإنك تجد الكلَّ الجمعيَّ تقريبا منحازا إلى طائفته، بمن فيهم غير الملتزمين بخطاب طائفتهم الديني، فإنهم في وقت النزاعات يجدون أنفسهم منجذبين إلى طائفتهم، كما قال الشاعر الجاهلي، من حيث الانحياز الجمعي، لا الفردي:
laquo; وهلْ أنا إلا مِنْ غزيَّةَ إنْ غَوَتْ غَوَيْتُ وإنْ تَرْشُدْ غزيَّةُ أرْشُدِraquo;
ولا نبعد كثيرا لو قلنا إن الطائفة_ للمنحاز إليها، في الوقت الحاضر_ تشبه القبيلة، عند العربي البدوي، الذي كان يجد في انضوائه تحتها ملاذا ضروريا، من صراعات أبعد ما تكون عن الانصياع للقانون، أو الدولة. بالطبع، هذا الانتكاس الذي نشهده اليوم، يؤشر إلى غياب الدولة، أو ضعف الثقة بها في (البلاد الطائفية).
وهذا يدل على أن الرِّباط الطائفي هو رباط مصلحي، أولا، ولا يمنع من أربطة معنوية أخرى، فلا أمان للفرد، ولا حماية لمصالحه، إلا بتفاعله مع طائفته، ونصرته لها. فالعامل الديني ليس هو الفاعل، بالضرورة.
وما دام أن المحرك الأفْعَل للناس هو مصالحهم التي تبحث عن إطار يحميها، وآليات ترعاها، فإن الدولة هي محلُّ التطلعات، قوة وضعفا، وعدالة، أو انحيازا.
فقوة الدولة في لبنان، مثلا_ لو توفرت_ بتقديم المصلحة العامة، وعدم التأثر بمواقف سياسية لأي من الفرقاء اللبنانيين، وقيام الجيش بواجبه، باعتبارات وطنية، دون التأثر بمواقف سورية المجاورة، أو غيرها، فإن هاجس الطائفية سيضعف.
هذه الحالة الطبيعية للدولة وجيشها، في لبنان، لن تكون كافية لوأد هذه العداوات، ما دام البلد المجاور مشتعلا، ومن الصعب، أن ينأى الشعب، ولا حتى نوابه، وقواه السياسية، في لبنان بنفسه، عن ثورة سورية، مثلما تنأى حكومة رئيس الوزراء، نجيب ميقاتي، في اجتماعاتها ومواقفها الرسمية المعلنة.
وهذا يعيدنا إلى لبِّ الأزمة، وهي النزاع في سورية، حيث بات بقاء نظام الأسد، مع عدم قدرته، على إنهاء الأزمة المتفاقمة خطرا على سورية، والمنطقة، وبات تهديد رموز النظام بفوضى تجتاح المنطقة كلها، محفزا أكبر، وأكثر إلحاحا لإعادة تشكيل الدولة في دمشق، بمعزل عن طاقم الحكم الذي هو جزء من المشكلة، ولا يصلح أن يكون مَعْبَرا للحل.
وهنا تنقلب التحذيرات التي يحذر منها رموز النظام في سورية، وزعماء مؤيدون له، في لبنان، من خطر انتقال المواجهات في طرابلس، إلى لبنان كله، وإلى المنطقة العربية، سلاحا ضدها؛ لأن الثورة في سورية حقيقية ذاتية، وقد أثبتت الأيام التي فاقت العام وشهرين، أن المطالبين بتغيير سياسي حقيقي في سورية لا تُضعِف عزيمتهم المواقفُ الدولية المترددة، والمتلكئة، ولا المواقف العربية العاجزة، ولا حتى الاختلافات التي قد تكون محبطة، في صفوف المعارضة.
فتغيير النظام_ يظلُّ، برغم طبيعة النظام الذي نتحدث عنه_ أسهل من تغيير الشعب، أو تغيير قناعات بلغت تصميما نادرا من غالبية واضحة منه!

[email protected].