الأقطار العربية ليست، الآن، في طور التأثير الخارجي، أو الالتفات إلى شأنٍ مجاور إلا بقدر ما يؤثر في استقرارها؛ فلكلِّ قُطْرٍ شأنٌ يُغنيه! سواء تلك التي دخلها laquo;الربيع العربيraquo;، أو تلك التي تنتظر.
وتمرُّ مصر، أهمُ دولةٍ عربية في حالة من الفراغ واللاستقرار ؛ فكيف ترقب إسرائيل هذه الأوضاع، وآفاق السلام؟ وكيف يَفهم اليمين الحاكم فيها هذه التحولات العميقة في العالم العربي، والجوار؟
من المؤكد أنها تراقب الأحداث بقلق، وكيف لا تفعل، وقد أصابها الأمر مباشرة، حين اعتدى الجمهور الغاضب في القاهرة على السفارة الإسرائيلية، واضطر طاقمها إلى الفرار.
العلاقة العربية الإسرائيلية ظلت تراوح دوما بين خيار الحرب، أو السلم. وقد حدث أول اختراق حين وقَّعت، مصر، أكبر وأهم دولة عربية، اتفاقية السلام الدائم مع إسرائيل؛ فكان هذا الاختراق مؤشرا عمليا على فرص السلام، كخيار واقعي.
لكن اتفاقية كامب ديفيد عام 1978م واتفاقية السلام مع الأردن1994م كانتا في ظل حكام أقوياء، وأوضاع عربية داخلية مستقرة.

أما بعد أن قطعت إسرائيل شوطا في التفاوض مع الفلسطينيين، حول مصير الشعب الفلسطيني والأراضي المحتلة بعد الرابع من حزيران، ثم لم توصل تلك الجهود التي قاربت على العشرين عاما إلى حل ناجز، بل تعمقت القناعات بافتقاد الظروف المناسبة لحل تاريخي، بسبب بعد المطالب واتساع الفجوات، وبسبب تنامي اليمين المتدين الذي لا يقبل بالتنازل إلى حدود الرابع من حزيران، ولا التخلي عن حلم دولة إسرائيل الكاملة، والإصرار على بقاء القدس موحدة تحت السيادة الإسرائيلية، فضلا عن الاستراتيجية القائمة على الاستيطان والتهويد.. كل ذلك خلق ظروفا غير مناسبة حتى للتفاوض الشكلي، كما تأمل واشنطن في أسوأ الأحوال، وأدنى التوقعات.
في هذه الظروف التفاوضية المُنْسَّدة اندلعت الثورات العربية، ولم تعدم هذه الثورات اهتماما بالشأن الفلسطيني، كما في مصر، وغيرها، إذ كان من ضمن ما ضاعف النقمة الشعبية فيها ضد الرئيس السابق، حسني مبارك، تلك العلاقة المصرية بإسرائيل التي رآها ثائرون مصريون غير منصفة لمصر، ولا لائقة بدورها ومكانتها الإقليمية والعربية.
وهنا لم يخفِ مسئولون إسرائيليون تحسرَهم على فقدان الكنز الاستراتيجي الذي كان يتمثل في نظام مبارك. فكيف تنظر اليوم إسرائيل إلى مصر؟
على المدى القريب، وربما المتوسط، قد لا تجد إسرائيل نفسها مضطرة إلى القلق من أوضاع مصر.
ذلك أن الاضطرابات المستمرة التي أضحت أشبه بالدائرة الشريرة، لا ينجح عقلاءُ مصر في الإمساك بطرفها، وقد كان الأمل منعقدا على أن تكون الانتخابات البرلمانية ثم الرئاسية بعد ما يقارب ستة أشهر مُدخلا إلى الاستقرار، لكن تعقيدات الوضع الداخلي، ومحاولة المؤسسة العسكرية استبقاء أكبر نفوذ ممكن على حساب القوى الفائزة في الانتخابات، ثم ضعف ثقة قسم من الجماهير الشبابية بكل العملية السياسية، وشكوكهم (التي تدعمها الوقائعُ المستفزة) في تغيير بنية الأمن الداخلي وعقيدته القمعية، فضلا عن الاحتقان الطائفي غير المحسوم، كل ذلك أفقد الانتخابات الكثير من بريقها، وشكك في قدرتها على أن تكون الرافعة السياسية للاستقرار الاجتماعي والشعبي.
وعلى فرض اجتياز مصر لأزماتها الداخلية، واصطلاحها على دستور ينظم الحياة السياسية، ويعيد الحكم، في نسبة منه، إلى الشعب، وممثليه، فإن مثل هذا التغير لا ينعكس عاجلا على العلاقة مع إسرائيل؛ لأن القوى السياسية الصاعدة، بما فيها الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية لا تنوي الانقلاب على الالتزامات الدولية والاتفاقات الإقليمية، بما فيها تلك التي مع إسرائيل، ولا هي قادرة على ذلك، في المرحلة القريبة، فالمجتمع غير ناضج لذلك؛ فله مشكلاته وأولوياته الداخلية، ولا هو متفق على خيار الحرب مع إسرائيل.
وليس من المتوقع، مهما أعطيت القوى الفائزة في الانتخابات من سلطات، أن تنفرد بقرار الحرب، دون المستوى العسكري، وتعلم إسرائيل أن المجلس العسكري هو الذي يملك القرار الحقيقي في مصر، وقد قال نائب رئيس الحكومة، ووزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي، موشيه يعلون: laquo;تربطنا علاقة إستراتيجية مع القيادة العسكرية في مصر. نحن نتابع التطورات السياسية في مصر عن كثب raquo;. وأكد يعلون على أن العلاقات مع القيادة العسكرية، والتي تدير شؤون البلاد منذ الإطاحة بالرئيس السابق حسني مبارك، تتمتع بالتواصل والتعاون.
وإسرائيل في هذه الفترة العربية المتحركة والمجهولة الآفاق، وحيث تتنامى أصوات الشعوب، ويتوزع الحكم على عدد من القوى، ويغيب الحكام الأقوياء والحكم البوليسي، وفي هذه المرحلة التي تستبطن قوى إسلاميةً لا تؤمن في عقائدها بشرعية دولة إسرائيل.. لن تكفيها، على الأرجح المشجعاتُ، والتطميناتُ الأمريكية التي تكررت مؤخرا على لسان، وزير الدفاع، ليون بانيتا لمغادرة حذرَها المُستَجد، وتوجسها الدائم، من إيمان العرب بالسلام، ولا يبدو أن اليمين الحاكم يحسب حسابا كبيرا للعزلة الإقليمية التي تغذيها سياسته المفضلة للسكوت والسكون.
وثمة أوساط إسرائيلية باتت ترى في تحلل دولتهم من اتفاقات السلام مغنما، في ظل التهديدات التي تشهدها نظمٌ كان يُعتقد بقوتها كنظام الأسد. ويجسد هذا الرأي والتوجس ما كتبه أحد أعضاء حزب الليكود، مؤخرا، في صحيفة laquo;إسرائيل اليومraquo; إذ قال : laquo; والحقيقة أن رابين في التسعينيات وباراك أيضا في سنة 2000 عرضا على الأسد الأب الجولان، مشتملا على بحيرة طبرية. ومما يفرحنا جدا أنه رفض. وهكذا نجا مواطنو إسرائيل من وضع كان يمكن فيه أن يجلس سوريون اليوم (لا ممثلون عن عائلة الأسد بالضرورة) على شواطئ بحيرة طبرية يطلقون النار على مدن إسرائيل بسهولة كبيرة، مع القدرات التي يملكونها اليوم، وماذا يكون لو أن سورية وقعت في يد الإسلام المتطرف؟ آنذاك ستعوم إيران في بحيرة طبرية!.raquo;.
فالأمور تتجه إلى التوقف، في أحسن الأحوال، إذا لم تكن إلى الوراء.
أما تعويل إسرائيل على خيار السلام بناء على تحول ديمقراطي حقيقي في العالم العربي فيبدو محفوفا بالشكوك والاختبارات الصعبة؛ ذلك أن الديمقراطية قريبة عهد بالمجتمعات العربية، ومثل هذه التحولات تحتاج أن تُستبق بحالة فكرية أعمق، وما يجري في العالم العربي هو انتفاع بآلية من آليات الديمقراطية، وهي الانتخابات التي تفرز قيادات شرعية، أما القوى الحقيقية فهي إسلامية المرجعية، أو قومية، مع بعض التيارات الليبرالية التي لا يجمعها موقف سياسي متجانس من إسرائيل؛ فهذا (الانخراط) في المعطيات الديمقراطية لا يجعل إسرائيل تطمئن إلى موقف عربي شعبي جديد يؤمن بالسلام، وفق الرؤية الإسرائيلية التي لم تُرْضِها المبادرةُ العربية التي طرحت منذ قمة بيروت في عام 2002م وقد عرضت عليها التطبيع الكامل، وضمانات أمنية من جميع الدول العربية، وحلا مقبولا لقضية اللاجئين، مقابل انسحابها من الأراضي التي احتلتها في الرابع من حزيران في فلسطين، والموافقة على قياد دولة فلسطينية عليها، ومقابل الانسحاب من الجولان، والأراضي اللبنانية المحتلة.
وعلى الأرض تحث إسرائيل، اليوم، خطاها نحو مزيد من الاستيطان، ولا سيما في محيط القدس، وتتحسب لمواجهة أخطار إقليمية محتملة كالسلاح النووي الإيراني، وتعزز بكل تأكيد من منظومتها العسكرية وقدراتها، وما يسمى بقوة ردعها...أما السلام ففي ثلاجة شديدة البرودة.
[email protected].

ز