حبس الأتراك أنفاسهم منذ أيام انتظارا لما ستفرزه الإنتخابات الرئاسية في كل من أرمينيا والشطر اليوناني من قبرص من نتائج. نظرا لوجود أكثر من ملف عالق بين أنقرة من جهة، ويريفان ونيقوسيا-أثينا من جهة أخرى. ويعتبر الأتراك هذه الملفات مسألة حيوية بالنسبة لأمتهم ولمستقبلها.
ومن المؤكد أن ما أفرزته صناديق الإقتراع من نتائج - سواء في أرمينيا القوقازية أو في قبرص المتوسطية التي يقطن شطرها يونانيون من أصول بلقانية- سيكون له بالغ التأثير على وضع تركيا في محيطها الإقليمي. هذا quot;المحيطquot; الذي يتطلع العثمانيون الجدد من حزب العدالة والتنمية، وفقا لأغلب الخبراء والمحللين، إلى quot;إعادة تركيعهquot; ليس بقوة الجيوش الإنكشارية الجرارة وإنما من خلال ديبلوماسية حكيمة، اصطلح البعض على تسميتها quot;قوة ناعمةquot;.


سركيسيان وناغورني كاراباخ
لقد تم الإعلان في يريفان، وسط جدل كبير، عن فوز رئيس الجمهورية المنتهية ولايته سيرج ساركيسيان، بولاية جديدة. ويشار إلى أن ساركيسيان هو مقاتل سابق في الحرب التي دارت رحاها أوائل تسعينيات القرن الماضي بين أرمينيا وأذربيجان حول إقليم ناغورني كاراباخ الذي يقطنه أرمن لكنه، جغرافيا، داخل أراضي أذربيجان التي ينتمي سكانها إلى العرق التركي.
وتقاطع أنقرة يريفان ولا ترتبط معها بعلاقات ديبلوماسية من منطلق دفاعها عن قضاياها القومية. فمادامت أرمينيا تحتل أراض راجعة لشعب تركي، هو الشعب الأذري، فإنها في نظر الأتراك معتدية ولا يجوز التعامل معها بقطع النظر عن التركيبة العرقية لناغورني كاراباخ، الذي يقطنه الأرمن بفعل سياسة إدماج القوميات التي انتهجها حكام الإتحاد السوفياتي البائد، الذي كانت تنتمي إليه كل من أذربيجان وأرمينيا قبل أن يتفكك.


مجازر العثمانيين
لذلك فإن الأتراك يربطون تطبيعهم مع أرمينيا بإنهاء احتلال الأخيرة للإقليم الأذري. في المقابل يشترط الأرمن على الأتراك اعترافهم بما يسمى بمجازر أسلافهم العثمانيين بحق الأرمن، التي قيل أنها ارتكبت أوائل القرن الماضي بسبب تخابر الأرمن quot;المسيحيين الأرتودكسquot; مع أبناء مذهبهم الروس في إضرار بمصالح العثمانيين quot;المسلمينquot; الذين بسطوا سلطانهم في وقت سابق على أرمينيا وخاضوا حروبا بالجملة ضد الروس في إطار الصراع بين الإمبراطوريتين على مناطق النفوذ. وكان القوقاز إحدى أهم بؤر التوتر على الدوام بين الإمبراطوريتين المتصارعتين.
وقد ارتفعت أصوات داخل أرمينيا في الآونة الأخيرة تطالب بتجاوز أحقاد الماضي، والبحث عن حلول لإنهاء الأزمات مع الجار التركي اللدود بغاية إنعاش إقتصاد البلاد الذي يواجه أزمة في هذا المجال أجبرت قرابة المليون أرمني في السنوات الأخيرة عى مغادرة بلادهم التي تفشت فيها البطالة بشكل ملفت. وقد ساهمت عزلة أرمينيا وحدودها المغلقة مع جاريها الشرقي والغربي في هذا الوضع المزري الذي جعل من إيران متنفس الشعب الأرمني الوحيد باعتبار اشتراك البلدين في معاداة أذربيجان التي تساند مطالب الأقلية الأذرية في إيران في صراعها ضد نظام الملالي في طهران.

الحلقة الأضعف
وتدفع واشنطن باتجاه تطبيع الأرمن مع الأتراك والأذريين ما سيجعل تصدير بترول بحر قزوين إلى الأسواق الغربية يتم بأقل التكاليف. فخط باكو(عاصمة أذربيجان) تبيليسي (عاصمة جورجيا) جيهان (ميناء تركي متوسطي) لتصدير البترول، يكلف واشنطن وحلفاءها الكثير، في الوقت الراهن، باعتبار طوله حين يعبر أراضي جورجيا. واختصاره مرورا بأراضي أرمينيا سيمكن الولايات المتحدة وحلفاءها من الضغط على تكاليف استخراج محروقات بحر قزوين، كما سيمكن أرمينيا التي أضر بها غلق حدودها مع تركيا وأذربيجان من موارد إضافية هي بأمس الحاجة إليها في ظل ما تعيشه من أزمة خانقة.
كما أن الغرب بقيادة الولايات المتحدة لم تعد لديه الثقة في جورجيا لتأمين وصول حاجياته من بترول بحر قزوين، حيث تبين له أن النظام في تبيليسي، الذي بات بحسب كثير من الخبراء، الحلقة الأضعف في منطقة القوقاز،على درجة كبيرة من الهشاشة وغير قادر على تأمين وجوده في مواجهة الدب الروسي، الذي اقتطع أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا ومنحهما الإستقلال دون أن يحول رجل أمريكا الرئيس الجورجي ميخائيل ساكاشفيلي دون ذلك. وبالتالي فإن دفع الرئيس الأرمني ساركيسيان إلى التطبيع مع تركيا بات أمرا حيويا بالنسبة لواشنطن.

معارضة القوميين
وقد أثمرت جهود واشنطن، عدة لقاءات تمت منذ بضع سنوات بين مسؤولين أتراك وأرمن، رغم معارضة القوميين من كلا الجانبين لذلك، كما أثمرت أيضا قمما جمعت كلا من أردوغان وغول بساركيسيان، واتفق الجانبان على تجاوز مسألة ناغورني كاراباخ في الوقت الراهن وترك مسألة المجازر للجنة من الخبراء والمؤرخين من الأتراك والأرمن. لكن دخول أردوغان في quot;مواجهاتquot; مع إسرائيل، وخصوصا رغبته في رفع الحصار عن غزة جعلت اللوبي الصهيوني في واشنطن وتغليبا منه لمصالح إسرائيل على مصالح بلاده، يستصدر قانونا يدين مجازر العثمانيين بحق الأرمن، ويجهض جميع مبادرات التطبيع التي تمت بين الجانبين التركي والأرمني.
وتراهن أنقرة كما واشنطن على فوز سيرج ساركيسيان بولاية جديدة مدتها خمس سنوات (وهو ما تم) لاستئناف جهود السلام المتوقفة. فالمصالح الإقتصادية بالنسبة للأتراك والأرمن أكبر من الخلافات التاريخية، وهو ما يؤمن به على ما يبدو سيرج ساركيسيان كما quot;أسياد الأناضولquot;. كما أن القوى الغربية داعمة لهذه المصالحة وتدفع باتجاه تحقيقها وذلك رغم الحذر الذي يبديه الروس من نوايا جماعة العدالة التنمية في تركيا، الراغبين في إنشاء منطقة تعاون إقتصادي في القوقاز، يرى فيها كثير من الخبراء في موسكو غطاء لإعادة إحياء quot;أمجادquot; الإمبراطورية العثمانية، ويتعامل معها الكرملين بحذر شديد فيما باركتها الولايات المتحدة وحلفاؤها.

السلام في قبرص
وتتزامن الإنتخابات الرئاسية في أرمينيا مع تصويت القبارصة اليونانيين في شطرهم من الجزيرة المتوسطية المقسمة منذ سنة 1974 لاختيار رئيس جديد لهم عوضا عن اليساري ديميتريس كريستوفياس، الذي عرف عنه سعيه المستمر لتحقيق السلام مع الأتراك وإعادة توحيد شطري الجزيرة. وقد شهد عهده تقدما ملحوظا في المفاوضات مع نظرائه القبارصة الأتراك بقيادة اليساري محمد علي طلعت الذي ينتمي إلى ذات المدرسة الفكرية مع كريستوفياس. لكن وصول اليميني ذي الميول القومية درويش إيروغلو، خريج مدرسة رؤوف دنكتاش المتشددة، إلى سدة الحكم في قبرص التركية، حال دون تواصل جهود توحيد الجزيرة.
هذه الجهود التي أثمرت في السابق لقاءات أسبوعية بين طلعت وكريستوفياس أذابت جليد الأزمة. كما أثمرت فتح الحاجز الرئيسي الذي كان يقسم الجزيرة في شارع ليدرا بالعاصمة نيقوسيا وهو حاجز شبيه بجدار برلين الذي قسم في وقت سابق الألمانيتين. لكن هذه الجهود لم يوقفها فقط تربع إيروغلو على عرش قبرص التركية عوضا عن محمد علي طلعت بمساندة القوميين في أنقرة، وبخلاف إرادة حزب العدالة والتنمية، ولكن أيضا تعنت أثينا ورفضها لخطة كوفي عنان التي وافق عليها الجميع في البداية لكن انضمام قبرص اليونانية إلى الإتحاد الأوروبي جعل الجانب اليوناني يرفع من سقف المطالب وبالتالي يجهض ما تم الإتفاق عليه.

مراجعة
وبالتالي فإن أغلب الخبراء والمختصين في شؤون البلقان، يؤكدون بأن عودة القوميين المتشددين لحكم قبرص التركية كان سببه تعنت الجانب اليوناني الذي استقوى بالإتحاد الأوروبي وتراجع عما كان يعتزم أن يبرمه من اتفاقيات. فقد أضعف هذا السلوك اليوناني رجب طيب أردوغان أمام خصومه وتراجع عن مساندة معسكر السلام في الجزيرة المتوسطية المتنازع عليها لصالح المتشددين المدعومين من التيار القومي التركي في أنقرة، الذي يصر على مطالبه ويرفض تقديم التنازلات.
فالجانب اليوناني غير مهتم في الوقت الراهن بالسلام مع الأتراك وبتوحيد الجزيرة، خاصة مع غلبة رأي لدى صناع قراره مفاده أن الأتراك سيهرولون إلى قبرص اليونانية بمجرد انضمامها إلى الإتحاد الأوروبي دون الحاجة لسلام ولتنازلات، خاصة وأن البطالة مستشرية في الجانب التركي من الجزيرة. لكن الأزمة الإقتصادية التي ضربت اليونان في الآونة الأخيرة وكثير من بلدان منطقة اليورو وأضرت كثيرا بقبرص اليونانية قد تجعل اليونانيين يراجعون حساباتهم بشأن عملية السلام مع الجانب التركي بحسب كثير من المراقبين رغم أن نتائج الإنتخابات القبرصية تثبت خلاف ذلك.

التيار اليميني
حيث فاز اليميني المحافظ نيكوس أناستاسياديس بأعلى الأصوات. ما يعني عمليا، لدى أغلب الخبراء والمحللين، مزيدا من التشدد في ملف توحيد شطري الجزيرة المقسمة منذ أن اقتحمها الجيش التركي بآلياته العسكرية أواسط سبعينيات القرن الماضي وأقام الحواجز والمتاريس التي شطرت الجزيرة إلى نصفين بتعلة الحفاظ على مصالح القبارصة الأتراك quot;المضطهدينquot; من قبل نظرائهم اليونانيين.
فالتعايش بين القوميين من كلا الجانبين أمر شبه مستحيل. وبخلاف حالة أرمينيا فإن الإرادة الدولية لا تدعم بشدة مصالحة تاريخية في قبرص. ومن المتوقع أن تعود القضية القبرصية إلى الواجهة خلال السنوات القادمة كمصدر للتوتر بين الجانبين التركي واليوناني. كما يتوقع خبراء ومحللون أن ينصرف الرئيس القبرصي الجديد إلى معالجة الأزمة الإقتصادية التي تمر بها بلاده كما اليونان وهو أمر يزعج القبارصة الأتراك في المقام الأول الذين ساء وضعهم المعيشي في غياب الحلول لدى القوى الإقليمية والدولية.