منذ سنوات اغتيل رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري في ظروف غامضة ومن قبل جهة أتقنت، ليس فقط تخطيط وتنفيذ العمل الإجرامي، بل أيضا عملية طمس أدلة الجريمة وتوجيه الأبحاث نحو جهات لا تمت بصلة للمنفذين والمخططين والمستفيدين من هذا الفعل الآثم.
وفي هذا الإطار تم إيهام الرأي العام بضلوع شخص يدعى quot;أبو عدسquot; ومن ورائه الشماعة التي يعلق عليها الجميع أخطاءهم في منطقة الشرق الأوسط، وهي تنظيم القاعدة، باعتبار أن الغاية كانت بالأساس التخلص من الرجل لأنه بات quot;عبء ثقيلاquot; على القوى الإقليمية والدولية quot;صاحبة الشأنquot; في بلد الأرز ووجب التخلص منه سريعا لفتح المجال أمام هذه الجهات لتنفيذ أجنداتها.
لقد كانت الغاية إزاحة الحريري من المسرح السياسي بأي ثمن. لأن الأمر كان يصب في مصلحة جهات لبنانية وأخرى خارجية تتربص بالبلد سواء على حدوده الجنوبية (الكيان الصهيوني) وحتى شمالا وشرقا حيث الشقيق السوري الأكبر (رغم رفض المغرقين في الطيبة تصديق الأمر)، وكذا باقي القوى الإقليمية والدولية.
فتم اختطاف أحد النكرات من مخيم فلسطيني جنوبي وأطلق عليه إسم أبي عدس، وأجبروه في تسجيل، على نسبة قتل الحريري لنفسه ولتنظيم لا يعرف له وجود في خارطة التنظيمات quot;الجهاديةquot;. وحتى تحبك خيوط المؤامرة بشكل جيد كفر أبو عدس رفيق الحريري ووضعه في خانة أعداء الإسلام. وكأن بالتخلص من رئيس وزراء لبنان الأسبق سيعم الدين الإسلامي الحنيف أنحاء الأرض وينتشر نوره بين البشر وستنتهي مشاكل الأمة ويعم الصلاح عوض الشرور والفتن.
وتبادل لاحقا النظام السوري الإتهامات بشأن اغتيال الحريري مع الجهات الغربية والصهيونية ولم تعرف الجهة التي زجت بالمسمى quot;أبو عدسquot;. واختفى الرجل من الوجود ولم يعثر له على أثر كما لم تعرف إلى يوم الناس هذا الجهة التي قتلت الحريري وأزاحته عن المشهد السياسي، وquot;ضاع دم الرجل بين القبائلquot;.
وفي تونس، التي اغتيل فيها شكري بلعيد، في ظروف سياسية وتوازنات إقليمية على غاية من الإختلاف مع واقع بلد الأرز. فإن هناك الكثير من أوجه الشبه. فكما لساسة الشرق الأوسط شماعة هي تنظيم القاعدة يسارع الجميع إلى اتهامها تفصيا من المسؤولة. لتونس أيضا شماعتها وهي quot;الأزلامquot; أو كما يسميهم المصريون quot;الفلولquot;. وقد سارعت بعض الأصوات في استباق لنتائج التحقيق إلى اتهام هؤلاء باغتيال شكري بلعيد. وقد كثر اتهام الأزلام في أكثر من موضع وفهم أولوا الألباب أن الأمر يتعلق بأشباح مهمتها الرئيسية هي التغطية على الفاعلين الأصليين وعن الجهات التي تحركهم.
وإلى جانب هؤلاء تم توجيه الإتهام أيضا باغتيال شكري بلعيد، من قبل البعض، إلى جهة، أو شماعة جديدة، ويتعلق الأمر بمؤامرة خارجية وجهات أجنبية تستهدف أمن تونس واستقرارها. وكأن النظام القائم في أرض الخضراء يناصب الغرب العداء ويصطف فيما يعرف بـquot;محور الممانعةquot; ويمثل خطرا على أمن أمريكا وإسرائيل، وهو الحائز على تزكية البيت الأبيض ومباركته شأنه شأن نظيره في مصر، الذي قال بشأنه وزير الخارجية الأمريكي جون كيري في استجواب له بالكونغرس بأن الرئيس مرسي هو خير ضامن لأمني أمريكا وإسرائيل.
ويتوقع بالفعل، رغم التمني بخلاف ذلك، بأن توجه أصابع الإتهام باغتيال شكري بلعيد إلى إحدى هاتين الجهتين أي الأزلام والجهة الأجنبية. كما يتوقع أن يتم اختلاق أبو عدس تونسي يظهر في وسائل الإعلام ويعترف أمام الملإ بالجرم المشهود، ويقع تغييبه لاحقا quot;غيبة كبرىquot; (قتل) أو quot;صغرىquot; (نفي) لإخفائه من المشهد السياسي وعن عيون الرقباء المتربصين بالفريق الحاكم سواء quot;إعلام العارquot; (توصيف تطلقه حركة النهضة على وسائل الإعلام التي ليست في صفها) أو quot;معارضة الثورة المضادةquot; (نعت يصف به إخوان تونس معارضيهم) أو غيرهم.
وحتى لا يعاد إنتاج أبو عدس بمواصفات تونسية، هناك عديد الإجراءات التي يمكن اتخاذها على غرار وجوب تحييد وزارتي السيادة، العدل والداخلية في أسرع وقت ممكن، كما يمكن الأخذ بالرأي الذي يدعو إلى أن تباشر لجنة مستقلة التحقيقات المتعلقة بمقتل بلعيد، تمثل فيها الهيئة الوطنية للمحامين وجمعية القضاة والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والمنظمة الشغيلة (الإتحاد العام التونسي للشغل) وغيرها من مكونات المجتمع المدني، لأن هناك نسبة معتبرة من التونسيين لم تعد تثق في الجهات السياسية الإخوانية الماسكة بمقاليد السلطة في البلاد.
فحياد التحقيق وإبعاده عن التجاذبات السياسية أمر مطلوب، وكذا تجنب اللجوء إلى القضاء الدولي، الذي ينادي به البعض (خصوصا حزب نداء تونس بزعامة رئيس الحكومة السابق الباجي قائد السبسي)، لأنه سيجعل هذا الملف وعلى غرار ملف الحريري عنوانا لصراعات القوى الإقليمية والدولية الراغبة في الهيمنة والسيطرة على مناطق النفوذ في المنطقة المغاربية التي باتت قبلة أكثر من طرف في الوقت الراهن نظرا لما تزخر به من ثروات.
=
- آخر تحديث :
التعليقات