لم تفاجئ تصريحات رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون الأخيرة والمتعلقة بمستقبل بلاده في الإتحاد الأوروبي، المراقبين والخبراء بشؤون القارة العجوز، فبريطانيا كانت باستمرار الحلقة الأضعف في محور القوى الكبرى المشكلة للإتحاد.

فهي، وبخلاف ألمانيا وفرنسا، لم تكن تاريخيا من الداعمين لقيام الإتحاد الأوروبي. وكان مجتمعها منقسما باستمرار بين داعم لهذا التجمع من القوميات والأعراق في القارة العجوز، وبين رافض يروم أن تظل الجزر البريطانية غير المترابطة جغرافيا مع اليابسة الأوراسية، بمنآى عما يحصل وراء quot;المانشquot;.
المحافظون
وكان حزب المحافظين على رأس القوى المترددة في ولوج النادي الأوروبي من أوسع أبوابه والتي ترغب في التعامل بحذر مع كل خطوة بهذا الإتجاه. كما يضم هذا الحزب في صفوفه جناحا رافضا رفضا مطلقا لانضمام بلد شكسبير إلى المنظومة الأوروبية خشية من ذوبان كيانه في هذا الخليط من الأعراق ذات الثقافات المتنوعة وفقدان مكونات هويته التي طالما ميزته عن شعوب المنطقة ومنحته خصوصية.
لذلك رأي أغلب المحللين بأن خطاب كاميرون - الذي أعلن من خلاله عن رغبته في إعادة التفاوض عن وضع بريطانيا في الإتحاد الأوروبي وطرح نتائج هذا التفاوض في استفتاء عام إذا ما نجح مجددا في العودة إلى 10 داونينغ ستريت خلال انتخابات سنة 2017 - جاء تلبية لرغبات هذا التيار داخل حزبه والذي يتمتع بشعبية معتبرة في صفوف المواطنين البريطانيين من المؤيدين لآرائه.
مرونة
ويرى أغلب المنتمين إلى حزب المحافظين وخلافا لقياديي حزب العمال (الذي يدفع باتجاه التكامل الأوروبي) وكذا الحزب الليبرالي ( الحزب الصاعد)، بأن الإنضمام إلى الإتحاد الأوروبي قيد الدول الأعضاء وجعلها أقل حرية في التدخل في عدد هام من المجالات، وبالتالي ساهم في عدم قدرتها على التحرك والمناورة. ويرغب هؤلاء في إتحاد أكثر مرونة يعطي الصلاحيات الأهم للدول الأعضاء من خلال كنفدرالية تضمن الإختلاف في الآراء بشأن السياسات المتبعة.
ويستدل هذا التيار بالكارثة الإقتصادية التي أصابت اليونان، والتي كانت عدم قدرة أثينا على التحكم بسعر صرف عملتها أحد أهم أسبابها. فسعر صرف اليورو ليس بيد ساسة بلاد الإغريق ومن مشمولات البنك الأوروبي. ولو كان الأمر بيد اليونانيين لخفضوا من سعر صرف عملتهم ولتمكنوا من تصدير منتوجاتهم بأبخس الأثمان في السوق العالمية واستطاعوا المنافسة التي تمكنهم من تجاوز بعض من أزمتهم.
توجه مصيري
لذلك تردد البريطانيون في الدخول إلى منطقة اليورو منذ الإعلان عن إنشائها، وازداد يقينهم بصواب توجهاتهم بعد أزمة اليونان والأزمة الإقتصادية التي شهدتها أغلب بلدان منطقة اليورو ولم تنج من تأثيراتها السلبية سوى ألمانيا. وهو ما جعلهم لا يرفضون فقط الإنضمام إلى منطقة اليورو، بل يراجعون حتى مسألة استمرار تواجدهم في الإتحاد من عدمها.
وتفيد استطلاعات الرأي المجراة بأن أعداد الرافضين لوجود المملكة المتحدة في المنظومة الأوروبية في ازدياد كبير، وهو مرشح أيضا، إلى أن يتضاعف من هنا إلى سنة 2017 تاريخ الإستفتاء المزمع القيام به في حال إعادة انتخاب حزب المحافظين مجددا وبزعامة ديفيد كاميرون. وهو ما أثار قلق عديد الجهات الرافضة لهذا التوجه المصيري البريطاني القديم-الجديد.
خشية
وفي طليعة هذه الجهات الرافضة، قطبا الإتحاد الرئيسيين، ألمانيا وفرنسا، الحريصتين على نجاح هذا البناء وصموده في وجه الرياح العاتية التي تعصف به. فالإتحاد بدأ يتعافى تدريجيا من مخلفات الأزمة الإقتصادية التي ضربته وبدأ يتحسس ملامح الإستقرار في منطقة اليورو، ويخشى الأوروبيون (ألمانيا وفرنسا على وجه الخصوص)، من أن تعيدهم تصريحات كاميرون إلى المربع الأول وتزعزع الثقة في هذا التجمع الإقليمي الذي بذلوا quot;الغالي والنفيسquot; من أجل بنائه.
ويؤكد أغلب الخبراء والمحللين بأن الولايات المتحدة لا ترغب بدورها في رؤية بريطانيا بعيدة عن المنظومة الأوروبية. فهي تساند قيام اتحاد إقتصادي قوي غير مفكك يدعم توجهاتها الليبرالية ويكون سوقا لترويج بضائعها ومنتجاتها. كما تساند وجود بريطانيا طرفا فاعلا فيه مغلبا للإرادة الأمريكية خصوصا في السياسة الخارجية.
زوبعة في فنجان
فالتماهي بين العاصمتين (واشنطن ولندن) واضح وجلي في جميع الملفات المتعلقة بالسياسة الخارجية، فيما تلاحظ اختلافات جذرية تبرز من حين لآخر بين الألمان والفرنسيين من جهة والولايات المتحدة من جهة أخرى، وتلعب بريطانيا دور المعدل للمواقف الأوروبية باتجاه واشنطن.
لذلك فإن أغلب الخبراء والمحللين يؤكدون بأن خطاب كاميرون لا يعدو أن يكون سوى زوبعة في فنجان لن تؤثر بالسلبية التي يعتقدها البعض على البنيان الأوروبي مادامت واشنطن المهيمنة على القرار في عدد هام من عواصم هذا الإتحاد غير راغبة في تفكيك حلفائها وتعمل بكل ما أوتيت من جهد لدعم اندماجهم ووحدتهم، وصناع القرار هناك يؤمنون بأن أوروبا قوية منيعة هي دعامة للحلف الأطلسي ولهيمنة أمريكا على العالم.