كثر الجدل في الآونة الأخيرة في تونس حول شكل النظام الذي سيتم إقراره في الدستور الجديد الذي سيؤسس لـquot;الجمهورية الثانيةquot; وهو مصطلح شائع بين النخب التونسية المتأثرة بما يحصل في بلد فولتير والتي لم تتخلص بعد من الإرث الإستعماري الجاثم على عقولها وتعتقد اعتقادا يقينيا راسخا أن العالم هو فرنسا وفرنسا هي العالم رغم تراجع باريس على المستوى العالمي وبروز أكثر من قوة دولية تفوقت على فرنسا في أكثر من مجال.
حركة النهضة تتمسك بالنظام البرلماني لغاية في نفس يعقوب بعد أن خبرت طبيعة هذا النظام خلال هذه المرحلة الإنتقالية التي فرضت فيها على الشعب التونسي ndash; باعتبارها صاحبة الأغلبية في المجلس الوطني التأسيسي ndash; نظاما برلمانيا مشوها قيل أنه مجلسي وهو لا يمت بأية صلة للأنظمة المجلسية على غرار النظام المعتمد في الكونفدرالية السويسرية. نظام رسخ هيمنة النهضة على الحياة السياسية في البلاد وبات صوتها طاغ على الجميع وتحولت البلاد معها من ديكتاتورية الشخص الأوحد إلى ديكتاتورية الحزب الواحد. هي صاحبة الأغلبية ما في ذلك شك لكن في المراحل الإنتقالية الإستثنائية كالتي تعيشها تونس يجب أن يشارك الجميع على قدم المساواة في صياغة القرارات المتعلقة بمستقبل البلاد التي يجب أن تتخذ بالتوافق بين من هو حائز على مائتي مقعد في المجلس التأسيسي وبين من هو حائز على quot;ربع مقعدquot; وصل بما يسمى بـquot;أفضل البقاياquot; بفعل نظام انتخابي تعيس لم يقطع مع إرث بن علي.
فالتجارب الديمقراطية أثبتت أن صاحب الأغلبية لا يحافظ أبد الدهر على أغلبيته. وأغلبية اليوم قد تصبح أقلية إن هي أفسدت الحرث والنسل في عملية ممارستها للحكم. وفي هذه الحالة وإذا احتكرت الأغلبية الحالية القرارات المتعلقة بمستقبل البلاد كما تفعل النهضة في تونس بتعلة أنها أغلبية. فإن الأغلبية التي ستفرزها الإستحقاقات الإنتخابية القادمة ستسعى لتغيير ما تم هضم حقوقها فيه حين كانت أقلية وسيفقد الدستور الجديد الذي هو بصدد الكتابة هيبته وعلويته ويصبح عرضة للتغيير المستمر مع كل أغلبية جديدة.
حركة النهضة في تونس لم تستوعب أن البلاد في مرحلة انتقالية وأنه لو تم انتخابها بالأغلبية في مرحلة عادية فإن من حقها أن تستفرد بالرأي في البلاد لكن ما دمنا في مرحلة انتقالية وفي ظرف استثنائي فإن من واجبها الأخذ بآراء المعارضة والبحث عن التوافق والنزول من برجها العاجي والإستماع إلى من يسميهم أنصارها بـquot;جماعة الصفر فاصلquot; أي المعارضة التي تحصل بعضها على نتائج هزيلة في الإنتخابات الأخيرة لم تتعد الصفر فاصل في بعض الدوائر.
وتكاد أغلب الأطياف السياسية في البلاد باستثناء الحزب الحاكم تتفق على النظام الرئاسي المعدل أي انتخاب رئيس الجمهورية مباشرة من الشعب وليس من البرلمان ومنحه صلاحيات - ليس على غرار المرزوقي الذي جردته النهضة من صلاحياته لصالح رئيس الحكومة النهضوي ndash; على أن يتم اقتسام هذه الصلاحيات بينه وبين رئيس الحكومة الذي يكون بالضرورة من أكبر كتلة نيابية. وفي هذه الحالة نضمن quot;منزلة بين المنزلتينquot;، لن تكون للرئيس صلاحيات بن علي المطلقة التي أدت إلى الإستبداد ولن يكون رئيسا ضعيفا مجردا من الصلاحيات يعاني من الفراغ على غرار المرزوقي ساكن قرطاج الحالي.
لكن ومن خلال مجريات الأحداث يبدو أن حركة النهضة ستفرض رأيها على الجميع بفعل ما تتمتع به من أغلبية في المجلس الوطني التأسيسي منحها إياها الشعب التونسي تجعلها قادرة على تمرير ما ترغب فيه حتى وإن تعلق الأمر بمخالفة القانون على غرار ما حصل في عملية إقالة محافظ البنك المركزي السابق وتعيين المحافظ الجديد. فالحركة تصر على النظام البرلماني الذي يؤكد أغلب خبراء القانون الدستوري في تونس أنه سيؤدي إلى عدم الإستقرار في البلاد نظرا لحالة التشرذم التي تعيشها الأحزاب السياسية التونسية التي لم تعتد بعد على المناخ الديمقراطي والحريات التي تم إطلاقها فجأة وعلى حين غرة في البلاد ولم تنجح إلى حد هذه اللحظة في بناء تكتلات وتحالفات صلبة قادرة على الصمود بوجه الهزات السياسية والإقتصادية التي تشهدها تونس ومحيطها الإقليمي والدولي.
ولعل ما يثير الأسف في هذا الجدل الدائر في كواليس المجلس التأسيسي وفي المنابر الإعلامية حيث يغني كل على ليلاه أن التونسيين حصروا أنفسهم في قوالب جاهزة وكأن النظامان البرلماني والرئاسي بمثابة الكتاب المنزل من السماء والحقائق المطلقة وليسا مجرد اجتهادات بشرية أفرزتها التجارب الغربية في إدارة شؤون الحكم وفي عملية البحث عن الطريقة المثلى لحكم الشعب لنفسه بنفسه. فكما أن للغرب موروثا حضاريا يمكن أن يقتبس منه، للتونسيين أيضا موروثهم في مجال الدسترة وصياغة القوانين يمكن الإستئناس به في عملية اختيار النظام الأمثل لإدارة شؤون الحكم في البلاد وفي العلاقة بين السلط يمتد إلى العهد القرطاجي أي قبل ميلاد المسيح بقرون.
فتونس القديمة وتحت مسمى إمبراطورية قرطاج، التي كانت جمهورية ولم يكن نظام الحكم فيها ملكيا وراثيا، وفي الوقت الذي كان فيه محيطها الإقليمي يرزح تحت وطأة العبودية والأنظمة الكليانية في القرن الرابع قبل الميلاد، عرفت واحدا من أوائل الدساتير في تاريخ البشرية هو دستور قرطاج الذي أعجب به الفيلسوف الإغريقي أرسطو في الفصل الحادي عشر من المجلّد الثاني من مؤلفه المشهور quot; في السياسة quot; واعتبر شكل الحكم الذي يكرسه هذا الدستور هو الأقرب في تصوره للحكم الرشيد في عصره وأنه نظام ديمقراطي بكل ما للكلمة من معنى يكرس حكم الشعب لنفسه بنفسه شأنه شأن الأنظمة في أثينا ولاسيديمون وكريت اليونانية.
وأبدى أرسطو في مؤلفه انبهاره بدستور قرطاج لأنه وبخلاف بلاد الإغريق لم يسمح للطبقة الأرستقراطية بالسيطرة على الدولة وحد من سلطات رئيسي البلاد المنتخبين من مجلسي القدماء(الشيوخ) والمواطنين (الشعب) وجعلهما يتغيران كل سنة في إطار مجلس حكم. كما تضمن دستور قرطاج الذي كان مكتوبا جملة من الحقوق على غرار الحق الإنتخابي والحق في العمل وحق الملكية كما نص على عدد من الحريات وهو ما جعله فريدا في عصره خصوصا في الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط.
والسؤال الذي يطرح نفسه لماذا لا يستلهم المؤسسون في تونس من هذا الدستور الذي رسخ أول نظام ديمقراطي في الحضارات الشرقية ويقضى في الأمر الذي فيه كلا الخصمين يستفتيان عوض هذا الجدل العقيم وعوض هذا البحث المضني في تجارب الآخرين؟