عرفت تونس عبر تاريخها بتسامح شعبها وانفتاحه على مختلف الثقافات والحضارات بفعل عوامل عدة منها الموقع الجغرافي المطل على الحوض الغربي للمتوسط والذي ساهم في بروز واحدة من أهم الحضارات التي أثرت في الإنسانية وهي حضارة قرطاج الفريدة في عالمها باعتبارها صاحبة أول نظام quot;ديمقراطيquot; في الحضارات الشرقية حكم من خلاله الشعب نفسه بنفسه عبر مؤسسات منتخبة قرونا قبل ميلاد المسيح.
لكن هذا البلد المتوسطي الخلاب المنفتح على محيطه يشهد اليوم ظاهرة جديدة أرقت مضاجع التونسيين ومحيطهم الإقليمي على حد سواء وهي انتشار الفكر التكفيري في البلاد انتشار النار في الهشيم ما جعل السلم الأهلي الذي ساد لقرون طويلة مهددا وكذا التماسك الإجتماعي الذي ميز تونس عن كثير من البلاد العربية التي مزقها غول الطائفية وغياب ثقافة القبول بالآخر.
لقد تحول مسقط رأس العلامة ابن خلدون مؤسس علم الإجتماع وأحد رواد الفكر المستنير في العالم الإسلامي إلى واحد من أهم quot;المحاضنquot; التي تفرخ من يسمون أنفسهم quot;جهاديينquot; دائمي التواجد في أهم بؤر التوتر في العالمين العربي والإسلامي بما في ذلك اليمن التي شهدت مؤخرا مقتل تونسي في معارك للجيش اليمني مع عناصر تنظيم القاعدة. والسؤال الذي يتبادر إلى الأذهان ماذا يفعل تونسي في اليمن؟ ولمصلحة أية جهة يقاتل جيشا نظاميا في بلد يدين السواد الأعظم من سكانه بالإسلام وليس في وضع احتلال من قبل قوة خارجية؟
مما لا شك فيه أن هذا الفكر المغالي في التشدد والدخيل على ثقافة أبناء الخضراء ما كان ليعرف هذا الإقبال الكبير من الشباب والمراهقين على النهل منه لو توفرت في تونس المرجعية الدينية التي تحصن هؤلاء من كل فكر دخيل. فالزعيم الراحل الحبيب بورقيبة ورغم إنجازاته التي لا ينكرها إلا الجاحد في بناء تونس الحديثة ارتكب خطأ فادحا تمثل في ضرب التعليم الزيتوني. فجامعة الزيتونة الإسلامية التي تعتبر من أعرق الجامعات في العالم الإسلامي والتي تأسست حتى قبل جامعة الأزهر في مصر والتي تخرج منها عديد العلماء مشرقا ومغربا، مثلت على الدوام الحصن المنيع للتونسيين من كل غزو ثقافي دخيل وحافظت على هوية البلاد على مدى قرون وحمتها من رياح التطرف والغلو. وقد تصدى علماء الزيتونة وخريجوها إلى الإستعمار الغربي وقادوا حركات التحرركما كان لهم دور فعال في التصدي للفكر الوهابي مع بدايات نشأته.
غياب الزيتونة لقرابة الستة قرون عن الساحة التونسية ترك فراغا جعل أجيالا تنشأ غير متشبعة بقيم الإسلام المعتدل لا تعرف شيئا عن دينها وجدت ضالتها في الفضائيات الوهابية المنتشرة بكثافة وارتمى شباب تونس اليافع بين quot;أحضانquot; هذا الداعية وذاك وأصبحت فتاوى هؤلاء بمثابة القرآن المنزل والذكر المحفوظ من رب العباد ينقاد إلى تطبيقها المريدون دون إعمال للعقل وبدون تمحيص الغث من السمين والخبيث من الطيب. وزادت سياسة quot;تجفيف المنابعquot; التي اتبعها بن علي لمحاربة الظاهرة الإسلامية الطين بلة باعتبار أن كل ممنوع مرغوب. فقد زادت هذه السياسة من إصرار التونسيين على التدين وكان الملجأ هذه الفضائيات غير الخاضعة لرقابة السلطة باعتبارها لا تشاهد في الفضاء العام وأيضا الجماعات المتطرفة في دولة مغاربية مجاورة ربط معها تكفيريو تونس الجدد حبال الود وباتت أماكن تواجد هذه الجماعات في صحراء هذه الدولة محجا للتكفيريين التونسيين رغم الرقابة على جانبي الحدود بين البلدين.
ومع الإنفلات في الحريات الذي شهدته تونس بعد الثورة وبعد الإفراج عن كثير من التكفيريين الذين سجنوا بموجب قانون الإرهاب المثير للجدل الذي سن في عهد بن علي خرج المارد من قمقمه وأصبح ميالا إلى فرض آرائه على من يخالفونه بالقوة فتم الإعتداء على صحافيين ومفكرين ودعاة معتدلين وفنانين وممتلكات عامة وخاصة وعلى أفراد ولم تحرك حكومة النهضة ساكنا للضرب بقوة على أيادي المخالفين ومبررها في ذلك أن المعالجات الأمنية مع هؤلاء فشلت مع بن علي وبالتالي وجبت محاورتهم والإستماع لهم لأنهم quot;أبناؤناquot; بحسب تعبير رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي الذي يذكره هذا الشباب المتحمس بشبابه على حد تعبيره.
هذه التصريحات والحق يقال شجعت هؤلاء المتشددين على التمادي في اعتداءاتهم لا يخشون لومة لائم غير مبالين بالإنتقادات التي يوجهها لهم أبناء وطنهم ويبدو أن لديهم اعتقادا يقينيا راسخا بأنهم وحدهم من يمتلك الحقيقة وأن هناك مؤامرة تحاك ضد الإسلام الذي نصبوا أنفسهم حماة له ومدافعين على قيمه بـquot;تفويض إلاهيquot; لا وجود له إلا في أذهانهم وبتفويض حكومي ضمني يؤكده التغاضي المستمر من الجهات الأمنية والقضائية التونسية على تجاوزات هؤلاء ومسارعة هذه الجهات في المقابل إلى الضرب بقوة على أيادي النقابيين وذوي المطالب الإجتماعية من عموم المواطنين. ويعزي مراقبون ذلك إلى رغبة حركة النهضة في الإستفادة من أصوات هؤلاء خلال الإنتخابات القادمة كما تذهب تحليلات إلى اعتبار التيار السلفي في تونس هو الجناح المتشدد العنيف لحركة النهضة الذي توظفه لتصفية حساباتها مع خصومها و لصرف الأنظار عن أخطائها وعجزها كلما تفاقمت المطالب الإجتماعية.
ويتفق جل الرأي العام في تونس على أن المعالجة الأمنية على طريقة النظام السابق والمتمثلة في اجتثاث هذا التيار برمته أثبتت فشلها في معالجة هذه الظاهرة وتتفق أغلب المنظمات الحقوقية التونسية على أن سياسة العقاب الجماعي ليست الحل لكن تطبيق القانون على كل فرد على حده بقطع النظر على انتمائه السياسي أو العقائدي أمر لا مفر منه لإشاعة الإطمئنان في النفوس التي أصبح بالفعل هذا التشدد والعنف يؤرقها. فكل من يخالف القانون ويعتدي على الأشخاص والممتلكات يجب أن يعاقب و يجب أن لا يتم التغاضي عن تجاوزاته لأن التيار المنتمي إليه تم اضطهاده زمن بن علي وإلا سقطنا في عقدة الذنب التي يشعر بها الغرب تجاه إسرائيل وأوصلت المجتمع الدولي إلى الكيل بمكيالين فغاب العدل وعم الخراب في العمران.